مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥))
ثم وبخهم الله تعالى على نقضهم ذلك بقوله (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) أي يا هؤلاء أو الذين (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي يقتل بعضكم بعضا أو (أَنْتُمْ هؤُلاءِ) مبتدأ وخبر ، و (تَقْتُلُونَ) بيان لهذه الجملة (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) لأنه كان بين الأوس والخزرج من قبائل العرب عداوة وكان بنو قريظة والنضير من قبائل اليهود ، إحديهما وهي بنو قريظة معينة للأوس ، والأخرى وهي النضير معينة للخزرة فاذا غلبت إحديهما كانت تقتلهم وتخرجهم من ديارهم ، وإذا أسر رجل من الفريقين من طائفة اليهود جمعوا له حتى يفدوه ، فعيرتهم العرب وقالت : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟ فيقولون : أمرنا كذا في التورية ، وإنما نفعل القتل المحرم علينا ، لأنا نستحيي أن نذل خلفاءنا ، فقال تعالى توبيخا لهم (تَظاهَرُونَ) بتخفيف الظاء مع الألف والتشديد (١) ، أي تتعاونون (٢)(عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ) أي بالعصيان (وَالْعُدْوانِ) أي الظلم وتجاوز الحد (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) وقرئ «أسرى» (٣) ، جمع أسير بمعنى واحد ، قيل : وإذا قيدوا يقال أسارى ، وإذا حصلوا في اليد من غير قيد يقال أسرى (٤)(تُفادُوهُمْ) وقرئ تفدوهم (٥) ، أي تبادلوهم الأسير بالأسير أو تأخذوهم بالفداء كما أمرتم به (وَهُوَ) أي الشأن (مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) من ديارهم ، وقيل : الضمير يرجع إلى الإخراج في قوله («تُخْرِجُونَ)(٦) ، فهو مبتدأ ، خبره (مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ) ، و (إِخْراجُهُمْ) مرفوع على أنه بدل من الضمير في (مُحَرَّمٌ) بيانا للذي حرم وذلك لتراخي الكلام ، يعني أعرضتم عن الكل بعد أخذ العهد عليها منكم إلا الفداء (أَفَتُؤْمِنُونَ) أي أتنقضون الميثاق فتؤمنون (بِبَعْضِ الْكِتابِ) أي ببعض ما فرض عليكم في التورية من الفداء (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وهو القتل والإخراج وما في قوله (فَما جَزاءُ) نفي أي ليس جزاء (مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ) أي نقض الميثاق (مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ) أي فضاحة وعذاب (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فخزي قريظة القتل والسبي ، وخزي النضير الإخراج من ديارهم والنفي إلى الشام (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ) بالياء غيبة ، أي يرجعون (إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) وهو عذاب النار ، لأن عذابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) عن ما (تَعْمَلُونَ) [٨٥] بالياء والتاء (٧) ، أي لا يخفى عليه شيء من أعمالهم فيجازيهم بها يوم البعث.
(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))
(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا) أي اختاروا (الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي بدلها (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) في الآخرة بسبب اتباع الهوى وترك الهدى (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [٨٦] أي لا يمنعون من العذاب بمانع لهم.
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧))
(وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا يا بني إسرائيل (مُوسَى الْكِتابَ) أي التورية جملة واحدة (وَقَفَّيْنا) أي أتبعنا (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد موسى (بِالرُّسُلِ) أي بالأنبياء مثل يوشع وإشمويل وداود وسليمان وعزير وإلياس وغيرهم ، يعني
__________________
(١) «تَظاهَرُونَ» : قرأ الكوفيون بتخفيف الظاء ، والباقون بتشديدها. البدور الزاهرة ، ٣٥.
(٢) تتعاونون ، س م : يتعاونون ، ب ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ١٣٥.
(٣) «أُسارى» : قرأ حمزة بفتح الهمزة وإسكان السين وحذف الألف بعدها ، والباقون بضم الهمزة وفتح السين واثبات ألف بعدها. البدور الزاهرة ، ٣٥.
(٤) وهذا القول لأبي عمرو ، انظر مفاتيح الغيب ، ٣ / ١٥٧.
(٥) «تُفادُوهُمْ» : قرأ المدنيان وعلي وعاصم ويعقوب بضم التاء وفتح الفاء وألف بعدها ، والباقون بفتح التاء وسكون الفاء وحذف الألف بعدها. البدور الزاهرة ، ٣٥.
(٦) أخذ هذا الرأي عن السمرقندي ، ١ / ١٣٥.
(٧) «تَعْمَلُونَ» : قرأ نافع وابن كثير وشعبة ويعقوب وخلف العاشر بياء الغيب والباقون بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ٣٦.