قتلا محرما (فَادَّارَأْتُمْ) أي تدافعتم واختصمتم (فِيها) أي في شأنها من الدرء ، وهو الدفع ، لأن كل واحد كان يطرح قتلها على آخر منهم وتدفع عن نفسه (وَاللهُ مُخْرِجٌ) أي مظهر (ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) [٧٢] أي الذي تسترونه من قتل عاميل وأعمل «مخرج» وإن كان بمعنى الماضي ، لأنه محكي عن المستقبل في وقت التدارء ، وهذه الجملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه.
(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣))
والفاء في قوله (فَقُلْنا) للبيان ، أي قلنا لهم ليظهر ذلك (اضْرِبُوهُ) أي المقتول (بِبَعْضِها) أي ببعض تلك البقرة ، قيل : بلسانها (١) ، وقيل : بفخذها الايمن (٢) ، وقيل : بعجب ذنبها (٣) وهو آخر الأعضاء فسادا بعد الموت (٤) ، قيل : هو عظم يخلق أولا عند البعث ثم يركب عليه سائر البدن (٥) ، فضربوه فحيي فقام وأوداجه تشخب دما ، وقال : قتلني فلان ابن عمي ، ثم مات فحرم الميراث ، وقتل : فان قيل هلا أحياه ابتداء ولم شرط في إحيائه ذبح البقرة وضربه ببعضها؟ أجيب بأن في ذلك حكما وفوائد جمة ، منها التقرب بذبح البقرة وأداء التكليف واكتساب الثواب والتشديد عليهم بتشديدهم في السؤال ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة والدلالة على بركة البر للوالدين والشفقة على الأولاد وغير ذلك (٦).
ثم أشار تعالى إلى كيفية إحياء الموتى عند البعث مخاطبا لمنكريه في زمان النبي عليهالسلام بقوله (كَذلِكَ) أي مثل إحياء الله المقتول (يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) عند النفخة الثانية يوم القيامة (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي علامته مثل إحياء الميت وغيره من العجائب (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [٧٣] المراد منكم ، يعني إرادة أن تعلموا أن القادر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء نفوس كثيرة وتمنعوا نفوسكم عن هواها وتطيعوا الله فيما يأمركم به.
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))
(ثُمَّ قَسَتْ) أي غلظت ويبست (قُلُوبُكُمْ) بخروج الرحمة وذهاب اللين منها (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد ما تقدم من الآيات كاحياء القتيل ومسخ القردة والخنازير ورفع الجبل وفجر الأنهار من الحجر وغير ذلك (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) في شدتها وقسوتها (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) برفع (أَشَدُّ) ونصب (قَسْوَةً)(٧) على التمييز ، أي أو أشد غلظة ويبسا من الحجارة لا يؤثر المواعظ فيها وإنما لم يقل : أو أقسى ، فان أفعل التفضيل يخرج من فعل القسوة ، لأن ذلك أبين وأدل على فرط القسوة وشدتها فيها ، قيل : وإنما لم يشبهها بالحديد وإن كان أصلب لأنه قابل للتليين (٨) ، و «أو» للتخيير (٩) في التشبيه ، وقيل : بمعنى الواو أو هو بمعنى بل (١٠)(وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ) أي
__________________
(١) نقله عن السمرعندي ، ١ / ١٢٩.
(٢) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ١ / ١٢٩.
(٣) وقال فخر الدين الرازي في تفسيره : «واختلفوا في البعض الذي ضرب به القتيل ، فقيل بلسانه وقيل فخذها اليمنى وقيل ذنبها وقيل العظم الذي يلي الغضروف وهو أصل الآذان وقيل البضعة بين الكتفين ، ولا شك أن القرآن لا يدل عليه ، فان ورد خبر صحيح قبل وإلا وجب السكوت عنه». انظر مفاتيح الغيب ، ٣ / ١١٥. وقال ابن كثير في تفسيره : «هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به ، وخرق العادة به كائن ، وقد كان معينا في نفس الأمر ، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبيّنه الله تعالى لنا ، ولكن أبهمه ، ولم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه ، فنحن نبهمه كما أبهمه الله». انظر تفسير القرآن العظيم ، ١ / ١٦٠.
(٤) أخذه عن السمرقندي ، ١ / ١٢٩ ، ١٣٠.
(٥) نقل المؤلف هذا الرأي عن السمرقندي ، ١ / ١٢٩ ، ١٣٠.
(٦) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ١ / ٧٦.
(٧) نقل المصنف هذه القراءة عن الكشاف ، ١ / ٧٦.
(٨) أخذ المؤلف هذا الرأي عن البغوي ، ١ / ١٠٥.
(٩) قاله الزجاج ، انظر السمرقندي ، ١ / ١٣٠.
(١٠) أخذه عن البغوي ، ١ / ١٠٥.