الولد في بطن أمّه معتمدا على رجليه وراحة يديه على ركبتيه وظهره إلى وجه الأم ، ووجهه إلى ظهرها حتى لا تتأذى الأمّ بنفسه.
وإنّما خلق الله عينيه في رأسه لتكون مشرفة على جميع الأعضاء في الجهات كلها ، كالطّليعة للعسكر ، وأصلح المواضع للطلائع المكان المشرف ، وجعلهما في كهفين حراسة لهما وتوفيرا لضوئهما ، وجعل لهما الهدب ليدفع ما نظر إليهما.
وخلق الله الأنف لينحصر فيه الهواء المستنشق لترويح الرّئة والدماغ. وخلق الفم وعاء لجميع الكلام ، وخلق اللّسان آلة للنّطق ، ولتقليب الطعام الممضوغ ، والمضغ يكون في جانبي الفم حراسة لأداة النّطق. وخلق الشّفتين غطاء للفم والأسنان ، ويحجب اللّعاب ، ومعينا على الكلام ، وجمالا في الصّورة ، والأسنان تقطّع ؛ والأنياب تكسر ؛ والأضراس تطحن. وخصّ الفكّ الأسفل بالتحريك ؛ لأن تحريك الأخفّ أحسن ، لأن الأعلى يشتمل على الأعضاء الشّريفة فلم يخاطرها في الحركة ؛ لأن الحركة تضعفها. وجعل ماء الأذن مرّا لئلّا يقيم فيه الهوام ، فإذا دخل الأذن دابّة لم يكن لها همّ إلّا الخروج. وجعل ماء العين مالحا لئلّا يذوب ، وجعل ماء الفم عذبا ليطيّب طعم الطعام.
وخلق الله الأصابع آلة لعمل الأشياء كالكتابة والصّناعة والخياطة ، وجعلها على الكفّ لتحفظ ما يجعل فيها ، ولم يخلق الأصابع خالية من العظام لتكون أفعالها قويّة ، ولم يجعل عظامها مجوّفة لتكون أقوى على القبض والحركات. وجعل القلب في وسط الصّدر لأنه أعدل الأماكن وقد ميّل قليلا إلى اليسار ليبعد عن الكبد ، والرّئة ، وغطاء للقلب ووقاية له ، وهو بيت النّفس ومنزل الفرح. وخلق الله الأمعاء كثيرة التّلافيف ليطول ستر الغذاء ، فلا يحتاج الإنسان إلى الغذاء في كلّ وقت ، وخلق الله القدم أخمص ليمسك الماشي في الدّرج.
قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١٤) ؛ أي المصوّرين المحوّلين من حال إلى حال ، ومعنى قوله (تبارك الله) أي استحقّ التعظيم والثناء ، وقيل : دام لم يزل ولا يزال. وقوله تعالى : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) لا يقتضي أن يكون معه