نورانيا تبصر العينان ، وتسمع الأذنان ، ويكون طيّبا ، فإذا خرج انتنّ الجسد ، ويكون باقيا فإذا زايلته الروح صار فانيا ، ويكون حيّا وبخروجه ميتا ، ويكون عالما فإذا خرج منه الروح صار سفليّا باليا.
والاختيار من هذه الأقوال : أنه جسم لطيف يوجد فيه الحياة! بدليل قوله تعالى في صفة الشّهداء : (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ)(١) والأرزاق والفرح من صفة الأجسام ، والمراد بهذا أرواحهم ؛ لأن أجسادهم قد بليت في التراب ، وكذلك قوله صلىاللهعليهوسلم : [إنّ أرواح الشّهداء تعلّق في شجرة من الجنّة ، وتأوي إلى قناديل معلّقة تحت العرش](٢) وهذا لا يكون إلا في جسم ، ولا يتأتّى ذلك في الأعراض كما زعمت المعتزلة والنجارية (٣) : أن الروح عرض ، وهو مردود بما ذكرناه.
وعن ابن عبّاس : (أنّ الرّوح إذا خرج مات الجسد ، وصار الرّوح صورة أخرى لا تطيق الكلام ؛ لأنّ الجسد جرم ، والرّوح يصوّت من جوفه ويتكلّم ، فإذا فارق الجسد صار الجسد صفرا (٤) ، وصار الرّوح صورة أخرى ينظر النّاس سكونه ، ويغسلونه ويدفنونه ولا يستطيع أن يتكلّم ، كما أنّ الرّيح إذا دخل في مكان ضيّق سمعت له دويّا ، فإذا خرج منه لم تسمع له صوتا ، وكذلك المزامير ، فأرواح المؤمنين ينظرون إلى الجنّة ويجدون ريحها ، وأرواح الكفّار يعذبون في قبورهم).
وهذا الذي ذكرناه كلّه في تفسير الروح عند التحقيق من التكلّف ؛ لأن الله سبحانه أبهم علم ذلك ، قال عبد الله بن يزيد : (ما بلغ الإنس والجنّ والملائكة والشّياطين علم الرّوح ، ولقد مات رسول الله صلىاللهعليهوسلم وما يدري ما الرّوح ، ولم يخبر الله
__________________
(١) آل عمران / ١٦٩ ـ ١٧٠.
(٢) أخرجه الطبري في المعجم الكبير : ج ١٩ ص ٦٢ : الحديث (١١٩ ـ ١٢٥) عن كعب بن مالك بإسناد صحيح ، وأخرجه أصحاب السنن.
(٣) النجارية : فرقة من فرق الجبرية الاثنتي عشرة ، ومن أفكارهم زعمهم (أن الله يعذّب الناس على فعله لا على فعلهم). ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ٤ ص ١٦٣ : تفسير الآية (١٠٣) من سورة آل عمران.
(٤) الصّفر : بالكسر : الخالي ، يقال : بيت صفر من المتاع ، ورجل صفر اليدين.