ثم رجعت إلى أبيه وأخبرته بذلك ، فأتاه آزر ؛ قال له : يا أبتاه من ربي؟ قال : أمّك ؛ قال : ومن ربّ أمّي؟ قال : أنا! قال : ومن ربّك؟ قال : النمرود! قال : ومن ربّ النمرود؟ فلطمه ؛ وقال : اسكت ؛ فسكت.
ثم أنه خرج بعد ذلك من السرب حين غربت الشمس ، فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم فقال : لا بدّ أن يكون لهذه ربّ وخالق ، ثم تفكّر في خلق السموات والأرض ، وقال : إنّ الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني هو ربي ، ما لي إله غيره. (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أي غشيه الليل ؛ رأى الزهرة ؛ (قالَ هذا رَبِّي).(فَلَمَّا أَفَلَ) ذلك النجم ؛ قال : لا أحبّ ربّا ليس بدائم. ثم نظر ؛ فرأى القمر طالعا في آخر الليل ؛ (قالَ هذا رَبِّي) ، فلما رآه يسري وينتقل من مكان إلى مكان ، علم أنه محدث لا يصلح أن يكون ربّا ؛ ف (قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ) طالعة قد ملأت كلّ شيء ، (قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) مما قبله ، (فَلَمَّا أَفَلَتْ) جاء إلى قومه فرآهم يعبدون الأصنام ، ف (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.)
قوله عزوجل : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ؛) وأظلم أي غطّاه ، والتظلّم ، يقال : يجنّ جنّة الليل ؛ وأجنّه وجنّ عليه ؛ إذا أظلم ، وجنت الميّت وأجنته إذا دفنته (١). وقوله تعالى : (رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ؛) في هذا القول ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه قال هذا ربي في ظنّي ؛ لأنه كان في حال فكرة واستدلال ، وكان في ذلك الوقت مهلة له للتروّي والنظر ، فلما رأى الكوكب في علوّه وضيائه ، قرّر في نفسه على ما ينقسم حكمه من كونه ربّا خالقا أو مخلوقا مربوبا ، فلما رآه طالعا آفلا ومتحرّكا زائلا ، قضى بأنه محدث بمقارنته ، أما ذات الحدث وأنه ليس بربّ ، وأنّ المحدث غير قادر على إحداث الأجسام ، وأن ذلك يستحيل منه ، كما استحال ذلك من نفسه إذا كان محدثا ، فحكم بمساواته له من جهة الحدوث وامتناع كونه خالقا.
__________________
ـ الكسائي) وهو كتاب مما يقتدى به)).
(١) في المخطوط : (إذا رفته) وهو تصحيف. وفي اللغة : وجنّ الميّت جنّا وأجنّه : ستره. لسان العرب : (جنن).