وعن ابن عبّاس : (أنّ أهل مكّة لمّا وجدوا العير أرادوا الرّجوع ، فتمثّل لهم إبليس في صورة رجل يقال له : سراقة بن مالك بن جعنم من بني كنانة ، فقال : لا ترجعوا حتّى تستأصلوهم ، فإنّكم كثير وهم قليل ، ولا غالب لكم اليوم من النّاس ، وإنّي معين لكم من بني كنانة ، فلا تمرّون بأحد من بني كنانة إلّا سار معكم ، فإنّهم لا يخالفونني.
فساروا وسار إبليس معهم ، ولم يخرج أحد من بني كنانة ، فجعلوا يقولون : يا سراقة أين ما ضممت لنا؟ فيقول : مروني ، حتّى قدموا بدرا ، فلمّا كان عند القتال رأى إبليس جبريل فنكص على عقبيه راجعا ، وقال الحارث بن هشام : يا سراقة أين تذهب؟ فقال : إنّي أرى ما لا ترون ، فقال الحارث : وما ترى إلّا جعاشيش أهل يثرب؟ ـ والجعشوش : الرّجل القصير ـ فلمّا رأى الحارث إبليس ينطلق ، أهوى به ليأخذه ، فدفعه إبليس فرمى به ، ثمّ نكص على عقبيه وقال : ـ إني ـ أخاف الله ، والله شديد العقاب (١).
فلمّا انهزم المشركون جعلوا يقولون : هزم النّاس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة فقدم عليهم فقال : بلغني أنّكم تقولون أنّي هزمت النّاس! والّذي نحلف به ما بلغني ما تقولون ولا سمعت بمسيركم حتّى بلغني هزيمتكم ، فجعلوا يقولون له : أما أتيتنا يوم كذا وكذا؟ وهو يقول : لا ؛ والّذي نحلف به ما كان من ذا قليل ولا كثير. فلمّا أسلموا عرفوا أنّه إنّما كان من الشّيطان).
فإن قيل : كيف يجوز أن يتمكّن إبليس من أن يخلع صورة نفسه ويلبس صورة سراقة؟ ولو كان قادرا على أن يجعل نفسه صورة إنسان كان قادرا على أن يجعل غيره إنسانا؟ قيل : إذا صحّت هذه الرواية ، فالجواب : أن الله خلق إبليس في صورة سراقة ، والله تعالى قادر على خلق إنسان في مثل صورة سراقة ابتداء ، فكان قادرا على أن يصوّر إبليس في مثل صورة سراقة.
__________________
(١) مجمل ما أسنده الطبري في جامع البيان : الأثر (١٢٥٦٢) عن ابن عباس ، و (١٢٥٦٣) عن السدي ، و (١٢٥٦٤) عن عروة بن الزبير ، و (١٢٥٦٦) عن قتادة ، و (١٢٥٧٠) عن الحسن.