فساروا حتى نزلوا بدرا بجانب الوادي على غير ماء ، ونزل المشركون على جانبه الأقصى على الماء ، والوادي بينهما فباتوا ليلتهم تلك ، فألقى الله على المسلمين النّوم فناموا ، ثم استيقظوا وقد أجنبوا وليس معهم ماء ، فأتاهم الشيطان فوسوس إليهم وقال : لهم تزعمون أنّكم على دين الله وأنتم مجنبون تصلّون على الجنابة ، والمشركون على الماء.
فأمطر الله الوادي وكان ذا رمل تغيب فيه الأقدام ، فاشتدّ الرمل وتلبّدت بذلك أرضهم وأوحل أرض عدوّهم ، وبنى المسلمون في مكانهم حياضا واغتسلوا من الجنابة وشربوا وسقوا دوابّهم وتهيّأوا للقتال ، فذلك قوله تعالى : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) أي واذكروا إذ يلقي الله عليكم النّعاس ، والنّعاس : أول النّوم قبل أن يثقل. وقوله تعالى : (أَمَنَةً مِنْهُ) أي أمنا من الله منهم بوعد النّصر أمنا حتى غشيهم النعاس في حال الاستعداد للقتال (١). قال ابن عبّاس : (النّعاس عند القتال أمن من الله ، وفي الصّلاة من الشّيطان).
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (يغشاكم) واحتجّا بقوله تعالى : (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ)(٢) فجعل الفعل للنّعاس. وقرأ نافع (يغشيكم) على أنّ الفعل لله تعالى ليكون مطابقا لقوله : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) واحتجّ بقوله تعالى : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ)(٣). وقرأ الحسن وأبو رجاء وعكرمة وأهل الكوفة وابن عامر ويعقوب (يغشّيكم) بالتشديد لقوله تعالى : (فَغَشَّاها ما غَشَّى)(٤).
قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ؛) يعني المطر ليطهّركم به من الجنابة والحدث ، (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ؛) وسوسة الشيطان التي كان وسوس إليكم بأنّ عدوّكم قد غلب على الماء ، وأنّكم في مكان تسوح أقدامكم في الرمل. ويقال : أراد بالرّجز الجنابة التي أصابتهم بالاحتلام ، فإنّ الاحتلام إنّما يكون من وسوسة الشيطان.
__________________
(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثار (١٢٢٥٨ ـ ١٢٢٦١).
(٢) آل عمران / ١٥٤.
(٣) يونس / ٢٧.
(٤) النجم / ٥٤.