فيهم جميع العقول حتى سمعوا كلام الله وفهموا خطابه ، فقال لهم : اعلموا أنه لا إله غيري ، ولا ربّ لكم سواي ، فلا تشركوا بي شيئا ، وأنّي مرسل إليكم رسلا يذكّرونكم عهدي وميثاقي ومنزّل عليكم كتابا فتكلّموا ألست بربكم؟ فقالوا : بلى ، شهدنا أنّك ربّنا وإلهنا لا ربّ غيرك. فأقرّوا كلّهم طائعين ، وأخذ بذلك ميثاقهم وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصابهم.
فنظر إليهم آدم عليهالسلام فرأى فيهم الغنيّ والفقير ، وحسن الصّورة وغير ذلك ، فقال : يا رب لو شئت سوّيت بينهم ، قال : ونظر إلى الأنبياء بينهم يومئذ مثل السّرج ، فلما أخذ عليهم الميثاق ردّهم إلى صلب آدم ، فالناس محبوسون في أصلاب آبائهم حتى يخرج كلّ من أخرجه في ذلك الوقت ، وكلّ من ثبت على الإسلام فهو على الفطرة الأولى ، وكلّ من جحد وكفر ، فإنّما تغيّر عنها ، ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم : [كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه ، حتّى يعرب عنه لسانه إمّا شاكرا وإمّا كفورا](١) فلا تقوم الساعة حتى يولد كلّ من أخذ ميثاقه ، لا يزيد فيهم ولا ينقص منهم.
وتقدير الآية : وإذ أخذ ربّك من ظهور بني آدم ذرّياتهم ، ولم يذكر ظهر آدم ، وإنّما أخرجوا يوم الميثاق من ظهره ؛ لأنه أخرج ذرّية آدم بعضهم من ظهر بعض على نحو ما يتولّد الأبناء من الآباء ، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم بقوله : (مِنْ بَنِي آدَمَ ؛) لأنه قد علم أنّهم كلّهم بنوه ، وأخرجوا من ظهره.
قوله تعالى : (شَهِدْنا ؛) يجوز أن يكون هذا من قول الذين أخذ عليهم الميثاق. ثم ابتدأ فقال تعالى : (شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (١٧٢) ؛ ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله : (بلى) ثم يقول الله تعالى : شهدنا عليكم ، وأخذنا الميثاق كيلا يقولوا يوم القيامة : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) أي عن هذا الميثاق والإقرار.
__________________
(١) أخرجه الإمام الطبراني في المعجم الكبير : ج ١ ص ٢٨٣ : الحديث (٨٢٧ و ٨٢٨) عن الأسود ابن سريع. والإمام أحمد في المسند : ج ٣ ص ٣٥٣ عن جابر بن عبد الله ، واللفظ له. في مجمع الزوائد : ج ٧ ص ٢١٨ ؛ قال الهيثمي : ((أخرجه أحمد عن جابر بن عبد الله ، وفيه أبو جعفر الرازي وهو ثقة وفيه خلاف ، وبقية رجاله ثقات)).