«المبحث الثاني في الأسباب المنتجة للولادة»
اضطربت في تلك الأسباب آراء المؤلفين قديما وحديثا في جميع الأزمنة ، فيجعلونها تارة في الجنين ، أو في الرحم ، أو في العضلات البطنية ، أو في الحجاب الحاجز ، بل أحيانا يجعلونها في هذه الأعضاء كلها ، فبقراط وأغلب القدماء قالوا : إن الجنين وقت الولادة جعل تعالى فيه إحساسا مخصوصا يمزق أغشيته ويتمدد ، ويستند برجليه ومقعدته على قعر الرحم ، ويكبس برأسه على العنق ، ليمدده ، ويمر من أعضاء التناسل ، وذلك معنى قول بعض المتأخرين أن الجنين هو الفاعل لخروجه بالحركات القوية التي يفعلها بثقله ، وأسسوا ذلك على أن فرخ الطير كالدجاج مثلا يثقب بمنقاره البيضة المحتوية عليه وقت الفقس ، وأن الجنين الميت في بطن أمه يخرج بعسر أكثر من غيره ، وأن كثيرا من الأطفال يخرجون بأنفسهم بعد موت أمهاتهم ، لكن المحققون اتفقوا على أن الجنين ، وإن كان له دخل عظيم في الخروج إلا أنه يستعين بأمور خارجة عنه لإتمام هذه الوظيفة ، وأما مشابهته لفرخ الطائر فبعيدة ، والغالب أن موت الجنين لا يتعب اندفاعه أتعابا محسوسا مع أن بطء الطلق فيه يوضح ، ذلك لأنه يبقى في الرحم مسترخيا لا يستند عليها كاستناد الجنين الحي ، وإذا ابتدأ فيه التعفن حصل في قابلية تهيج الرحم وانقباضها تأثير مغمم فيفقدان شيئا من فاعليتها الأولية وأيضا فإن قابلية المعيشة في الجنين من حيث إنها على حسب القابلية في الأعضاء المحتوية عليه لكونه من الواضح أن الولادة تكون أسرع وأسهل إذا كان الجنين قويا جيد الصحة منها إذا كان ضعيفا أو مريضا ، وأما حصول الولادة أحيانا بعد موت الأم بيوم أو يومين أو ثلاثة فلا تأييد فيه لمذهب القدماء ، بل هو دليل قوي لمخالفيهم ، وذلك أن خروج الأجنة في تلك الأحيان من الرحم إنما كان نتيجة قوة غريبة عن الجنين ؛ لأن أعضاء الحياة النسبية بعد الموت ، ولا سيما العضلات تسترخي ، وأما أعضاء الحياة الغذائية فإنها لا تزال زمنا ما حافظة لانقباضاتها ، والبطن يمتلئ أحيانا بغاز بسرعة غريبة ، فإذا كان الطلق متقدما في وقت نزع المرأة لم يستغرب أن يشاهد أن الرحم انضغطت انضغاطا قويا من الظاهر ، ولم تكن مقاومة للعجان ، ولم تزل فيها قوة الانقباض تصل بذلك إلى طرد البذرة كلها إلى الخارج بدون أن تحتاج إلى مشاركة الجنين لها فيه ، وذلك يحصل كثيرا ، فقد اتفق أن امرأة خرج منها جنين ميت بعد موتها بأربع وثلاثين ساعة ، ونقول من جهة أخرى : قد ثبت من المشاهدات أن الولادة تحصل قربا بتلك الكيفية مهما كان الزمن الذي وصل له الحمل إذ من الواضح أن الإجهاض في النصف الأول من الحمل لا يكون للجنين فيه القوة على أدنى فعل للاندفاع ، فكيف يتصور أن هذا الكائن الضعيف يوسع فتحة لا تقدر يد رجل قوي على النفوذ منها مع كون الجنين في الشهر الرابع أو