المقدمة في «الأحجار الفحمية وما يتعلق بذلك»
في بيان قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (٨٠) [يس : الآية ٨٠]. اعلم أن النار من جملة المنافع العظيمة المحتاج إليها جميع العباد ، وهي ناشئة من الصمغية والشمعية المودعتين في الشجر ، والجعل هنا بمعنى الخلق ، أي خلق لكم ولمنفعتكم من الشجر الأخضر نارا ، ولا معارضة (١) في جعله من ذلك نار ، فالذي قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها ، قدر سبحانه وتعالى على خلق الصمغ والشمع في الشجر كما قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) (٧١) [الواقعة : الآية ٧١]. أي تقدحون (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) (٧٢) [الواقعة : الآية ٧٢]. وفي تفسير شجرة النار وجهان : (أحدهما) : أن الشجر التي تصلح لإيقاد النار هي الحطب ، فإنها لو لم تكن لم يسهل علينا إيقاد النار ولم يتيسر. (وثانيهما) : أصول شعلها الساري بها المتولد بخلقه تعالى منها ، ينتشر بها لأجل تغذيها ، ويحيله تعالى بقدرته إلى سوائل دهنية ، فلو لم يجعلها تعالى ذات شعل ، لما صلحت لإنضاج الأشياء ، فمن قدر على إحداث هذه الدهنية التي هي أصل الشعل قدر على إحداث النار في الشجر ؛ لأنه على كل شيء قدير ، ولا شك عند كل عاقل أنه تعالى هو المخرج للأشجار والنباتات كما قال تعالى : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) (٥) [الأعلى : ٤ ، ٥]. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : المرعى هو الكلأ الأخضر ، والغثاء من النبات ما حملته المياه وسيرته مع الزبد بقدرته تعالى ، ورسب وانطم في الكدرات ، وقوله تعالى : (أَحْوى). أي أسود ، أي اكتسب بعد الزمن الذي انطم فيه سواد انتشر به مكتسبا من الأرض ، فإن قيل : هل يعلم قدر المدة التي يصير فيها الغثاء أحوى ؛ أي أسود؟ قتلت : لا يعلم ذلك ؛ ولا يعلم أيضا أزمان تكون طبقات الأرض إلا الله تعالى كما قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٣) [الأعلى : ٢ ، ٣].
وفيه أسئلة : (الأول) : هو أنه تعالى قادر على كل الممكنات ، منفرد سبحانه وتعالى بعلم جميع المعلومات ، خلق ما أراد على وفق ما أحب وأراد ، موصوفا بالإحكام والإتقان والكمال والعرفان ، مبرأ عن العبث والاختلال وعن العلة والاعتلال.
(الثاني) : قرأ الجمهور (قَدَّرَ) [الأعلى : الآية ٣] مشددة ، وقرأ الكسائي على التخفيف ، أما قراءة التشديد ، فالمعنى أنه قدر كل شيء بمقدار معلوم ، وأما التخفيف فقال
__________________
(١) قوله : ولا معارضة ... إلخ. تأمل هذه العبارة فإنها لا تكاد تظهر. اه.