(ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : الآية ١٤]. وفيه بحثان :
(البحث الأول) :
اعلم أن جميع الأطوار التي تتقلب على بنية الآدمي في الحياة الرحمية مطابقة للأحوال الدائمة في الحيوانات ؛ لأننا إذا قارنا درجات نمو أجنة الآدمي على اختلافها بدرجات أطوارا أجنة غيره من الحيوانات ، أمكننا أن نستدل على المطابقة المذكورة بأدلة عديدة ، لكن نكتفي ببعضها فنقول :
(اعلم) أن المضغة في الابتداء تكون كالذرة كما قلنا كما تشاهد في الديدان البسيطة ، ثم تصير جسما دوديا كما في الديدان الخاتمية ، ثم يبرز الذنب وتظهر الأطراف باستواء ، وهذا ما يشاهد في معظم ذوات الأربع ، فأول ما يظهر في المجموع العصبي الأعصاب وعقدها ، وهذه حالة ذوات الأعصاب من الحيوانات الغير الفقرية ثم يتميز كل من النخاع الفقري والجمجمة وحدباتهما ، ويظهر رسم المخيخ والمخ ، وهذا ما يشاهد في السمك والحيوانات الزاحفة ، ثم تتزايد هذه الأجزاء أكثر من الحدبات ويزيد الدماغ بالتدريج حتى يصير كدماغ الطير والحيوانات الثديية ، ثم تستولي فصيصات المخيخ والمخ وتعظم حتى تصير مخ آدمي ، فهذه كيفية تقلب الأطوار للأحوال من الحيوانات الدنيئة الرتبة بالنسبة إلى الإنسان.
(البحث الثاني) :
إذا تتبع نمو العظام ، شوهد أنها تكون غروية ثم تصير غضروفية ثم عظمية ، لكن تكون حينئذ منفصلة جملة قطع ثم تلتحم فيما بعد ، فإذا قوبل نمو العظام المذكور بنمو عظام السمك وغضاريف الحيوانات الفقرية التي تتناسل بالبيض ، نتج من تلك المقابلة دليل مصحح لما ذكرناه ، وهكذا إذا بحثنا في جميع الأجناس والأجهزة العضوية ، لكن لما كانت أطوار تكوين الآدمي ونموه أسرع مرورا من أطوار باقي الحيوانات ، كان إدراكها عسرا ، والبحث في المقابلة المذكورة سواء كان بين الإنسان وغيره من الحيوانات ، أو بين الإنسان ونفسه في أطوار حياته على اختلافها أمره مهم يجب على عالم ومشرح معرفته.
(المسألة الثانية) :
(اعلم) أنه تعالى إنما قال : (أَنْشَأْناهُ) [المؤمنون : الآية ١٤]. لأنه جعل إنشاء الروح