في أجرام السماوات أكثر وأعظم وأكمل منها في أبدان الناس ثم إنه تعالى رغب في التأمل في أبدان الناس في قوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٢١) [الذّاريات : الآية ٢١]. فما كان أعلى شأنا وأعظم برهانا منها أولى بأن يحب التأمل في أحوالها ومعرفة ما أودع الله تعالى فيه من العجائب والغرائب.
(الرابع) : أنه تعالى مدح المتفكرين في خلق السماوات والأرض فقال : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) [آل عمران : الآية ١٩١]. ولو كان ذلك ممنوعا منه لما فعل.
(الخامس) : أن من صنف كتابا شريفا مشتملا على دقائق العلوم العقلية والنقلية بحيث لا يساويه كتاب في تلك الدقائق فالمعتقدون في شرفه فضيلته فريقان ، منهم من يعتقد كونه كذلك على سبيل الجملة من غير أن يقف على ما فيه من الدقائق واللطائف على سبيل التفصيل ، والتعين ومنهم من وقف على تلك الدقائق على سبيل التفصيل والتعين ، واعتقاد الطائفة الأولى وإن بلغ إلى أقصى الدرجات في القوة والكمال إلا أن اعتقاد الطائفة الثانية يكون أكمل وأقوى وأوفى ، وأيضا فكل من كان وقوفه على دقائق ذلك الكتاب ولطائفه أكثر كان اعتقاده في عظمة ذلك المصنف وجلالته أكمل. إذا ثبت هذا فنقول من الناس من اعتقد أن جملة هذا العالم محدث ، وكل محدث فله محدث ، فحصل له بهذا الطريق إثبات الصانع تعالى ، وصار من زمرة المستدلين ، ومنهم من ضم إلى تلك الدرجة البحث عن أحوال العلم العلوي والعالم السفلي على سبيل التفصيل ، فيظهر له في كل نوع من أنواع هذا العالم حكمة بالغة وأسرار عجيبة ، فيصير ذلك جاريا مجرى البراهين المتواترة والدلائل المتوالية على عقله فلا يزال ينتقل كل لحظة ولمحة من برهان إلى برهان آخر ، ومن دليل إلى دليل آخر ، فكثرة الدلائل وتواليها له أثر عظيم في تقوية اليقين وإزالة الشبهات ، فإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذه الفوائد والأسرار.
(المسألة الثالثة):
تقدم تفسير قوله تعالى : (مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) [الأعراف : الآية ٥٤]. بما سبق ذكره مفصلا وأما المفسرون فلهم فيه وجوه : (أحدها) : المراد نقاذ إرادته لأن الغرض من هذه الآية تبين عظمته وقدرته وليس المراد من هذا الأمر الكلام. ونظيره قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصّلت : الآية ١١] وقوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٠) [النّحل : الآية ٤٠]. ومنهم من حمل هذا الأمر على