«المقالة الثامنة»
في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ
لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (٩٨) [الأنعام : الآية ٩٨].
اعلم أنه لا شبهة في أن النفس الواحدة هي آدم ـ عليهالسلام ـ وهي نفس واحدة ، وحواء مخلوقة منه ، فصار كل الناس من نفس واحدة وهي آدم ، فإن قيل : فما القول في عيسى ـ عليهالسلام ـ قلنا : هو مخلوق أيضا من مريم ، التي هي مخلوقة من أبويها. فإن قالوا : أليس أن القرآن قد دلّ على أنه مخلوق من الكلمة أو من الروح المنفوخ فيها ، فكيف يصح ذلك؟ قلنا : كلمة من تفيد ابتداء الغاية ، ولا نزاع أن ابتداء الغاية في تكون عيسى كان من مريم. وهذا القدر كاف في صحة هذا اللفظ ، قال القاضي : فرق بين قوله : (أَنْشَأَكُمْ) [الأنعام : الآية ٩٨]. وبين قوله : (خَلَقَكُمْ) [البقرة : الآية ٢١]. لأن أنشأكم يفيد أنه خلقكم لا ابتداء ، ولكن على وجه النمو والنشوء لا من مظهر الأبوين كما يقال في النبات : أنه تعالى أنشأه بمعنى النمو والزيادة إلى وقت الانتهاء.
وأما قوله : (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) [الأنعام : الآية ٩٨]. ففيه مباحث :
«المبحث الأول» :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو فمستقر بكسر القاف ، والباقون بفتحها ، قال أبو علي الفارسي : قال سيبويه : يقال قرّ في مكانه واستقر ، فمن كسر القاف كان المستقر بمعنى المقارّ ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون خبره المضمر منكم ، أي منكم مستقر ، ومن فتح القاف فليس على أنه مفعول به ؛ لأن استقر لا يتعدى فلا يكون له مفعول به ، فيكون اسم مكان ، فالمستقر بمنزلة المقر وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون خبره المضمر منكم ، بل يكون خبره لكم ، فيكون التقدير : لكم مقر. وأما المستودع ، فإن استودع فعل يتعدى إلى المفعولين ، تقول : استودعت زيدا ألفا ، وأودعت مثله ، فالمستودع يجوز أن يكون اسما للإنسان الذي للإنسان الذي استودع ذلك المكان ، ويجوز أن يكون المكان نفسه. إذا عرفت هذا فنقول : من قرأ : (مُسْتَقَرًّا) [الفرقان : الآية ٢٤]. بفتح القاف جعل المستودع مكانا ليكون مثل المعطوف عليه ، والتقدير : فلكم مكان استقرار ، ومكان استيداع. ومن قرأ : (فمستقر) بالكسر ، فالمعنى : منكم مستقر ، ومنكم مستودع ، والتقدير : منكم من استقر ومنكم من استودع. والله تعالى أعلم.