(الوجه الأول):
أن الظل هو الامر المتوسط بين الضوء الخالص وبين الظلمة الخالصة وهو ما بين ظهور الفجر إلى طلوع الشمس وكذا الكيفيات الحاصلة داخل الأسقف وأفنية الجدران ، وهذه الحالة أطيب الأحوال ؛ لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس وإن الضوء الخالص : وهو الكيفية الفائضة من الشمس ، فهي لقوتها تبهر الحس والبصرى وتفيده السخونة القوية ، وهي مؤذية فإذا أطيب الاحوال هو الظل ، ولذلك وصف الجنة به فقال تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (٣٠) [الواقعة : الآية ٣٠].
واذا ثبت هذا فنقول : إنه سبحانه وتعالى بين أنه من النعم العظيمة والمنافع الجليلة ، ثم إن الناظر إلى الجسم الملون وقت الظل كأنه لا يشاهد شيئا سوى الجسم وسوى اللون ، فنقول : الظل ليس أمرا ثالثا ، ولا يعرف به إلا أنه إذا طلعت الشمس ، ووقع ضوؤها على الجسم حصل ذلك الظل ، فلو لا الشمس ووقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجودا وماهية ؛ لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها ، فلو لا الشمس لما عرف الظل ، ولو لا الظلمة لما عرف النور ، فكأنه سبحانه وتعالى لما بدأ بخلق الأرض كانت الكتلة المصورة للأرض ثلاث طبقات :
فالأولى : كانت سائلا ثقيلا كثيفا معتما.
والثانية : دخانا أسود.
والثالثة : ـ أي العليا ـ كانت بخارا كبخار الماء ، فلما تكون الجزء الجامد خفت الظلمة ، فخلق الله سبحانه وتعالى الكواكب والشمس والقمر ، ووقع الظل على الأرض ، ثم إنه سبحانه وتعالى خلق الشمس دليلا عليه.
(الوجه الثاني) : أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لما أطلع الشمس على الأرض وزال الظل ، فحينئذ ظهر للعقول : أن الظل كيفية زائدة على الجسم ، واللون ، فلهذا قال سبحانه : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) [الفرقان : الآية ٤٥]. أي خلقنا الظل أولا بما فيه من المنافع واللذات ، ثم إنا هدينا العقول إلى معرفة وجوده بأن أطلعنا الشمس ، فكانت الشمس دليلا على وجود هذه النعمة ، فلذلك قال تعالى بعده : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) (٤٦) [الفرقان : الآية ٤٦]. أي أزلنا الظل لا دفعة بل يسيرا يسيرا ، فإنه كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد انقصان الظل في جانب المغرب ، ولما كانت الحركات المكانية لا توجد دفعة بل يسيرا يسيرا كان زوال الاظلال كذلك لا يكون دفعة بل يسيرا يسيرا ؛ ولأن قبض الظل لو حصل