(الأول) : أن المراد منهما الأمران المحسوسان بحس البصر ، والذي يقوي ذلك أن اللفظ وحفظه فيهما ، وأيضا هذان الأمران إذا جعلا مقرونين بذكر السماوات الأرض ، فإنه لا يفهم منهما هاتان الكيفيتان المحسوستان.
(والثاني) : نقل الزمخشري (٢) عن كعب الأحبار أنه قال : (الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : الآية ١]. أي كقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النّور : الآية ٣٩].
(اعلم) أنه سبحانه وتعالى خلق جوهرة ونظر إليها بعين الهيبة فسالت سيلانا شفافا فكانت منه الأرض ، فتراءى كالسراب ، فضرب الله به مثلا بين المؤمن والكافر ، والبقيعة : البقعة التي اختارها الله تعالى لها ، والكناية للسراب ؛ لأن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة الموجودة في جو السراب كأنه ضباب وهباء ، فكأن السراب ما كان محيطا من الفراغ ، وما كان من الضباب والهباء كان السائل ، فبعد مكثه الزمن الذي أراده الله تعالى صار ماء كبحر مظلم لجي ، كقوله تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) [النّور : الآية ٤٠].
فذكر تعالى ثلاثى أنواع من الظلمات ، ظلمة البحر ، وظلمة الأمواج ، وظلمة السحاب ، فأول ما تصاعد بخارا لارتفاع الحرارة ، ثم تكاثف سحابا فسقط مطرا ، وهكذا حتى تكونت الأرض بإرادته.
(المسألة الثالثة) :
إنما قدم ذكر الظلمات على ذكر النور ؛ لأجل أن الظلمة عبارة عن عدم النور على الجسم الذي من شأنه قبول النور ، وليست عبارة عن كيفية وجودية مضاد ، للنور ، والدليل عليه أنه إذا جلس إنسان بقرب السراج ، وجلس إنسان آخر بالبعد منه ، فإن البعيد يرى القريب ، ويرى ذلك الهواء صافيا مضيئا ، وأما القريب فإنه لا يرى البعيد ، ويرى ذلك الهواء مظلما ، فلو كانت الظلمة كيفية وجودية لكانت حاصلة بالنسبة إلى هذين الشخصين المذكورين.
وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الظلمة ليست كيفية وجودية ، وإذا ثبت هذا
__________________
(٢) قوله : نقل الزمخشري ... إلخ. قد اطلعنا على الكشاف فلم نجد فيه هذه العبارة ، ولعلها في كتاب آخر له. اه.