(المقالة الثالثة والخمسون)
في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٤١) [العنكبوت : الآية ٤١].
وفي الآية مسائل :
(الأولى) : ما الحكمة في اختيار هذا المثل من بين سائر الأمثال ، والجواب في ذلك وجوها :
(الأول) : إن البيت ينبغي أن يكون له أمور حائط حائل ، وسقف مظل وباب يغلق ، وأمور ينتفع بها وإن لم يكن كذلك فلا بد من أحد أمرين إما حائط حائل يمنع من البرد ، إما سقف مظل يدفع عنه الحر ، فإن لم يحصل منهما شيء فهو كالبيداء ليس ببيت ، لكن بيت العنكبوت لا يجنها ولا يكنها ، وكذلك المعبود ينبغي أن يكون منه الخلق والرزق وجر المنافع وبه دفع المضار ، فإن لم تجتمع هذه الأمور فيه فلا أقل من دفع ضر أو جر نفع فإن من لا يكون كذلك فهو والمعدوم بالنسبة إليه سواء فإذا كما لم يحصل للعنكبوت باتخاذ ذلك البيت من معاني البيت شيء كذلك الكافر لم يحصل له باتخاذ الأوثان أولياء من معاني الأولياء شيء.
(الثاني) : هو أن أقل درجات البيت أن يكون للظل ، فإن البيت من الحجر يفيد الاستظلال ويدفع أيضا الهواء والماء والنار والتراب ، والبيت من الخشب يفيد الاستظلال ويدفع الحر والبرد ، ولا يدفع الهواء القوي ولا الماء ولا النار ، والخباء الذي هو بيت من الشعر أو الخيمة التي هي من ثوب ، كان لا يدفع شيئا يظل ويدفع الشمس ، لكن بين العنكبوت لا يظل فإن الشمس فكذلك المعبود أعلى درجاته أن يكون نافذ الأمر في الغير ، فإن لم يكن كذلك فلا أقل من أن لا ينفذ فيه أمر العابد ، لكن معبودهم تحت تسخيرهم إن أرادوا أجلوه وإن أحبوا أذلوه.
(الثالث) : أدنى مراتب البيت أنه إن لم يكن سبب ثبات وارتفاق لا يصير سبب شقاق وافتراق ، لكن بيت العنكبوت يصير سبب انزعاج العنكبوت فإن العنكبوت لو دام في زاوية مدة لا يقصد ولا يخرج منها ، فإذا نسيج على نفسه واتخذ بيتا يتنبه صاحب الملك بتنظيف البيت منه ، والمسح بالمسوح الخشنة المؤذية لجسم العنكبوت ، فكذلك العابد بسبب العابدة ينبغي أن يستحق الثواب فإن لم يستحقه فلا أقل من أن لا يستحق بسببها العذاب ، والكافر يستحق العبادة والعذاب.