(أحدها) : أن هذه الآيات اشتملت على أن النملة والهدهد تكلما ؛ والكلام لا يصدر إلا من العقلاء ، وذلك يجري إلى السفسطة فإنا لو جوزنا ذلك لما أمنا في النملة التي نشاهد في زماننا أن يوجد أعلم بالهندسة من أوقليدس وبالنحو من سيبويه ، وكذا القول في القمل والصئبان ، ويجوز أن يكون فيهم الأنبياء والتكاليف والمعجزات ، ومعلوم أن من جوز ذلك كان إلى الجنون أقرب.
(وثانيها) : سليمان عليهالسلام كان بالشام فكيف طار الهدهد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن ثم يرجع إليه.
(وثالثها) : كيف خفي على سليمان عليهالسلام حال مثل تلك الملكة العظيمة مع ما يقال : إن الجن والإنس كانوا في طاعة سليمان ، وأنه عليهالسلام كان ملك الدنيا بالكلية ، وكان تحت راية بلقيس على ما يقال اثنا عشر ألف ملك تحت راية كل واحد مائة ألف ومع أنه يقال : إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام.
(ورابعها) : من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه.
(والجواب عن الأول) : أن النملة لما تنفست بما خطر لها وقع تنفسها في تموجات الهواء حتى وصل بقدرة الله إلى سيدنا سليمان ، أو أن ذلك الاحتمال قائم في أول الأمر ، وإنما يدفع ذلك بالإجماع. وعن البواقي أن الإيمان بافتقار العالم إلى القادر الحكيم المختار يزيل هذه الشكوك.
(البحث الثاني) :
قالت المعتزلة : قوله : (يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [النّمل : الآية ٢٤]. يدل على أن فعل العبد من جهته ؛ لأنه تعالى أضاف ذلك إلى الشيطان بعد إضافته إليهم ولأنه أورد مورد الذم ؛ ولأنه بين أنهم لا يهتدون.
والجواب من وجوه : (أحدها) : أن هذا قول الهدهد فلا يكون حجة.
(وثانيها) : أنه متروك الظاهر فإنه قال : (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) [النّمل : الآية ٢٤]. وعندهم الشيطان ما صد الكافر عن السبيل إذ لو كان مصدودا ممنوعا من الله لسقط عنه التكليف فلم يبق هاهنا إلا التمسك بفصل المدح والذم ، والجواب قد تقدم عنه مرارا ، فلا فائدة في الإعادة ، والله أعلم.