(المقالة الحادية والخمسون)
في قوله تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١)) [النمل].
اعلم أن سليمان عليهالسلام لما تفقد الطير أوهم ذلك أنه إنما تفقده لأمر يختص به ذلك الطير ، واختلفوا فيما لأجله تفقده على وجوه :
(أحدها) : قول وهب إنه أخل بالنوبة التي كانت ينوبها فلذلك تفقده.
(وثانيها) : أنه تفقد لمقاييس الماء التي كانت إليه ، وكان يعرف الفصل بين قريبه وبعيده فلحاجة سليمان إلى ذلك طلبه وتفقده.
(وثالثها) : أنه كان يظله من الشمس فلما فقد ذلك تفقده ، أما قوله : (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) [النّمل : الآية ٢٠]. فأم هي المنقطعة ، نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال : مالي لا أرى الهدهد. على معنى أنه لا يراه ، وهو حاضر لسائر ستره أو غير ذلك ، ثم لاح له أنه غائب فاضرب عن ذلك ، وأخذ يقول أهو غائب كأنه يسأله عن صحة ما ، لاح له ومثله قوله : إنها الإبل أم شاء.
وأما قوله : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٢١) [النّمل : الآية ٢١]. لا يجوز أن يقوله إلا فيمن هو مكلف أو فيمن قارب العقل ، فيصلح ؛ لأن يؤدب فلعله كان ذلك شرعه ، ثم اختلفوا في قوله : (لَأُعَذِّبَنَّهُ) [النّمل : الآية ٢١]. فقال ابن عباس : إنه نتف الريش والإلقاء في الشمس. وقيل : أن يطلي بالقطران ويشمس. وقيل : إن يلقي للنمل فتأكله. قيل : إيداعه القفص. وقيل : التفريق بينه وبين إلفه. وقيل : لألزمنه صحبة الأضداد. وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة الأضداد. وقيل : لألزمنه خدمة أقرانه.
وأما قوله : (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) [النّمل : الآية ٢٢]. فقد قرئ بفتح الكاف وضمها (غَيْرَ بَعِيدٍ) [النّمل : الآية ٢٢]. أي غير زمان بعيد. كقولك : عن قريب. ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان ، وليعلم كيف كان الطير مسخرا له.
وأما قوله : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) [النّمل : الآية ٢٢]. ففيه تنبيه لسليمان على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علما بما لم يحط به ، فيكون ذلك لطفلة في ترك الإعجاب ، والإحاطة بالشيء علما : أن يعلم من جهاته بأجمعها.