(المقالة التاسعة والأربعون)
في قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ.)
اعلم أنه تعالى لما بين أن إخراج الألبان من النعم ، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب دلائل قاهرة وبينات باهرة على أن لهذا العالم إلها قادرا مختارا حكيما فبين كذلك أن إخراج العسل من النخيل دليل قاطع وبرهان ساطع على إثبات هذا المقصود ، وفي الآية مسائل :
(المسألة الأولى) :
قوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النّحل : الآية ٦٨].
يقال : وحى وأوحت وهو هاهنا الإلهام. والمراد من الإلهام أنه تعالى قرر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي تعجز عنها العقلاء من البشر ، وبيانه من وجوه :
(الأول) : نفس النحل هو أهم حشرات هذا القسم ، وتتحصل منه المتحصلات الأكثر نفعا ، وهذه الحشرات تكون جنسا مخصوصا أنواعه القليلة العدد متشابهة الخصال ، وهذه الحشرات معروفة فجسمها وبري لونه أسمر مائل للسواد وعليه شريط مستعرض مائل للسنجابية ، وقرونها خيطية أقل طولا من الرأس والصدر معا وأعينها الصغيرة التي على هيئة مثلث موضوعة على الجبهة في الأنثى ، وعلى قمة الرأس في الذكور.
(الثاني) أن النحل يعيش فرقا تعرف بالطرد الذي يصنع الخلية ، ليسكن فيها ، وهذه الخلية محتوية على جملة خلايا صغيرة شكلها عجيب جدا في غاية الانتظام وهي مسدسة الشكل ، ويضع النحل بيضة وغذاءه في هذه الخلايا الصغيرة ، ثم إن لكل مجموع من النحل ثلاثة أنواع وهي الأنثى والذكور والشغالة ، فالأنثى توجد بمفردها في كل مجموع ، وهي كبيرة قوية مستطيلة قليلا ولها زبان ، وهي منوطة بوضع البيض ، والذكور عدتها من خمسمائة إلى ألف في كل مجموع ، وهو أصغر من الأنثى وأقل قوة وبطنها أقصر ، وليس لها زبان ، ووظيفتها إخصاب الأنثى ، والشغالة عدتها من اثنى عشر ألفا إلى عشرين ألفا ، وهي أصغر النحل ولها زبان وهي منوطة بخدمة البيض وبتربية صغر النحل وببناء الخلايا ، والعادة أن تتقاسم الشغل فبعضها يعول الدود ، ويعطيه غذاءه ، ويشتغل بتربية صغاره وبجميع ما يلزم لمسكن ، وبعضها يجتني رحيق الأزهار الطلع وعناصر العسل والشمع أي يجهر المؤنة ومواد