ذلك من الأسباب الخارجة ، ومن ثم قالت الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى وما سبب آجالكم ، وفي رواية موتكم لقالوا التخمة (الثاني) : أن المرض إنما يحدث باستيلاء بعض الأخلاط على الجوامد ، وذلك الاستيلاء إنما يحصل بسبب ما بينها من التنافر الطبيعي أي مشاركة الأعضاء ، أما الصحة فهي إنما تحصل عند بقاء الجوامد على اعتدالها وبقاؤها على اعتدالها إنما يكون بسبب قاهر يقهرها على العود إلى الاجتماع ، وعودها إلى الصحة إنما يكون أيضا بسبب قاهر يقهرها على العود إلى الاجتماع والاعتدال بعد أن كانت بطباعها مشتاقة إلى التفرق والنزاع ؛ فلهذا السبب أضاف الشفاء إليه سبحانه وتعالى ، وما أضاف المرض إليه (الثالث) : هو أن الشفاء محبوب ، وهو من أصول النعم ، والمرض مكروه ، وليس من النعم ، وكان مقصود إبراهيم عليهالسلام تعديد النعم ، ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إليه تعالى فإن نقضته بالإماتة فجوابه أن الموت ليس بضررا ؛ لأن شرط كونه ضررا وقوع الإحساس به ، وحال حصول الموت لا يقع الإحساس إنما الضرر في مقدماته ، وذلك هو عين المرض ، وأيضا فإنك قد عرفت أن الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر ، وخلاصها عنها عين السعادة بخلاف المرض.
«المقالة الخامسة والثلاثون»
في قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف : الآية ٣١]
اعلم أن قوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) [البقرة : الآية ٦٠]. أي مما طاب لكم ، روى أن بني عامر كانوا في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم فهمّ المسلمون بمثله فنزلت قوله : (وَلا تُسْرِفُوا) [الأنعام : الآية ١٤١]. أي بتحريم الحلال ، أو بالتعدي إلى الحرام ، أو بالإفراط في الطعام والشره عليه مما يسبب الأمراض ، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كل ما شئت لكن صغر لقمتك ، وطوّل مضغتك ، ولا تدخل طعاما ، قبل هضم طعام والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة ، وقال علي بن الحسين : وقد جمع الله تعالى الطب في نصف آية ، فقال : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : الآية ٣١]. إنه لا يحب المسرفين أي لا يرتضي فعلهم من الإسراف في المأكل والمشرب ، ودخول الطعام على الطعام لما فيه من تلبك الهضم ، وسير المواد لتعريض النقص من البدن ، وفيه مباحث :
«المبحث الأول في تناول الأطعمة» :
تناول الأطعمة يكون بتوجيهها إلى الفم ، وإدخالها في تجويفه فتستقصيها حاسة الذوق ،