«المقالة السابعة والعشرون»
في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (١٥) [الملك : الآية ١٥]. اعلم أن قوله هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فيه أقوال كما يأتي آنفا وأما الذلول فهو المنقاد من كل شيء الذي يدل لك ومصدره الذل وهو النقاد واللين ومنه يقال دابة ذلول وفي وصف الأرض بالذلول أقوال : (أحدها) : أنه تعالى ما جعلها صخرية خشية بل جعلها متنوعة من أحجار معدنية عديدة. (وثانيها) : أنه تعالى جعلها لينة بسبب ما تركت فيها من الأملاح والأتربة والأطيان كانت حجرية لتعذر ذلك. (وثالثها) : أنها لو كانت حجرية أو كانت مثل الذهب أو الفضة أو الحديد لكانت تسخن جدا في الصيف ولكانت تبرد جدا في الشتاء ولكانت الزراعة فيها ممتنعة والغراسة فيها متعذرة ولما كانت كفاتا للأموات والأحياء. (ورابعها) : أنه تعالى سخرها لنا بأن أمسكها في جو الفراغ ولو كانت خارجة عن الأجرام السماوية بحيث ما صح على أحدها من الحركة والسكون صح على الآخر لم تكن منقادة لنا وقوله تعالى : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) [الملك : الآية ١٥]. أمر إباحة وفيه وجوه : (أحدها) : قال صاحب الكشاف المشي في مناكبها مثل لقرط التذليل لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأبعده من إمكان المشي عليه فإذا صار البعير بحيث يمكنه المشي على منكبه فقد صار نهاية في الانقياد والطاعة فثبت أن قوله : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) [الملك : الآية ١٥] كناية عن كونها نهاية في الذلولية. (وثانيهما) : قول قتادة والضحاك وابن عباس أن مناكب الأرض جبالها وأكامها وسميت الجبال مناكب لأن مناكب الإنسان شاخصة والجبال أيضا شاخصة والمعنى إني سهلت عليكم المشي في مناكبها وهي أبعد أجزائها عن التذليل فكيف الحال في سائر أجزائها. (وثالثها) : إن مناكبها وهي الطرق والفجاج والأطراف والجوانب وهو قول الحسن والكلبي ومقاتل واختار الفراء وابن قتيبة أن مناكبها جوانبها أي مشرقها ومغربها ومنكبا الرجل جانباه وهو المراد من قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) (٢٠). وأما قوله تعالى : (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) [الملك : الآية ١٥]. فمعناه مما خلقه الله رزقا لكم في الأرض (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك : الآية ١٥]. يعني ينبغي أن يكون مكثكم في الأرض وأكلكم من رزق الله مكث من يعلم أن مراجعه إلى الله وأكل من يتقن أن مصيره إلى الله والمراد تحذيرهم عن الكفر والمعاصي في السر والجهر ثم إن الله تعالى بين أن بقاءهم مع هذه السلامة في الأرض إنما كان بفضل الله ورحمته وإنه لو شاء لقلب الأمر عليهم من سحاب القهر مطر الآفات.