الآخر ، ففي هذه الحالة تتحرك جميع أجزاء الحنجرة المختلفة بأسرها ، ففي الأصوات الدقيقة ترتفع الحنجرة مع توتر الأوتار الصوتية وتقاربها ، بعضها ، وفي الأصوات الغليظة يحصل عكس ذلك ، ثم إن كلا من قوة الصوت وضعفه ناشئ عن كمية الهواء الخارج من الرئتين ، وعن درجة قوة الأعضاء النافعة في التنفس ، والصوت لا يخرج من الفم على الحالة التي يكون بها في الحنجرة ، بل يتنوع كثيرا فيصير أشد قوة ورنانية عند اجتيازه في الفم والحفر الأنفية بسبب التجمعات والانعكاسات الحاصلتين له في هذه الحالة ، واعلم أن الكلام هو الصوت الملفوظ المتنوع بفعل أعضاء الفم المختلفة التي هي الحلق والأنف ، واللسان هو العضو الرئيس لهذه الوظيفة ، ومع ذلك فالشفتان والأسنان واللهاة وسقف الحنك والحفر الأنفية وغير ذلك كلها معينة على تكوين الكلام ولفظ الحروف ، والصوتية والكلام خاص بالإنسان فقط ، والكلمات المؤلفة له مستمرة في الذهن ، وبالكلام تتسع دائرة ما يتعلق به الإنسان من المعاشرات ، ويزداد عقله وتكثر معارفه ، ومن تنوعات الصوت الظاهرة تصدر الحروف التي ميزها عن بعضها معلمو العربية بالمتحركة والساكنة ، والحروف المتحركة ليست إلا رنات صوتية تتنوع تنوعا لطيفا حال اجتيازها من الحنك ، فحرف الألف مثلا وهو الهمزة الذي هو حرف متحرك يظهر أنه بسيط جدا ؛ لأن في لفظه يتباعد الصوت الناشئ في الحنجرة عن الحلق قليلا وأما الحروف الساكنة فتحتاج لمساعدة مقدار عظيم من أجزاء الأعضاء المكونة لها ، فلذلك سميت بالشفوية واللسانية والأنفية والحلقية وغير ذلك ، وأما الغناء فهو نغمات تشتمل على الحال مختلفة تحصل للصوت حال تكوينه ، والإنسان فقط هو الذي يمكنه أن يشركها بكلامه ولا يفعلها إلا إظهارا لأفكاره وتعبير عن اشتياقاته.
«المقالة الثانية والعشرون»
في قوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٨) [الشّمس].
اعلم أنا إن حملنا النفس على الجسد فتسويتها تعديل أعضائها على ما يشهد به علم التشريح الذي لو وضعناه وبيناه هنا لطال بنا المقام وكثر الكلام ، وإن حملناها على القوة المدبرة فتسويتها إعطاؤها القوى الكثيرة كالقوة السامعة والباصرة والمخيلة والمفكرة والمذكرة على ما يشهد به ما تقدم ، فإن قيل : لم نكرت النفس؟ قلنا : فيه وجهان : (أحدهما) : أن يريد به نفسا خاصة من بين النفوس وهي النفس القدسية النبوية ؛ وذلك لأن كل كثرة فلا بد فيها من واحد يكون هو الرئيس ، فالمركبات جنس تحته أنواع ؛ فمثلا رتبة المعادن رئيسها