«المقالة الحادية والعشرون»
في قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠))
عجائب هذه الأعضاء قد تقدم بيان نموها في تكوين الأجنة ، قال أهل اللغة العربية : النجد الطريق في ارتفاع. فكأنه لما وضحت الدلائل جعلت كالطريق المرتفعة العالية بسبب أنها واضحة للعقول كوضوح الطريق العالي للأبصار ، وإلى هذا التأويل ذهب عامة المفسرين في معنى النجدين ، وهو أنهما سبيلا الخير والشر ودليلهم عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه عليهالسلام قال : «النجدان نجد الخير ونجد الشر ولا يكن نجد الشر أحب إلى أحدكم من نجد الخير». وهذه الآية كالآية في (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) [الإنسان : الآية ١] إلى قوله : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٣) [الإنسان : الآيتان ٢ ، ٣]. وقال الحسن : أهلكت مالا لبدا فمن الذي يحاسبني عليه؟ فقيل : الذي قدر على أن يخلق لك هذه الأعضاء قادر على محاسبتك ، وروى عن ابن عباس وسعيد ابن المسيب ـ رضي الله تعالى عنهم ـ أنهما الثديان. ومن قال ذلك ذهب إلى أنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه ، والله تعالى أعطى الطفل الصغير القوة الإلهامية حتى ارتضعهما قال القفال : إن من قدر على أن يخلق من الماء المهين قلبا عقولا ولسانا قؤولا ، فهو على إهلاك ما خلق قادر ، وبما يخفيه المخلوق عالم ، فما العذر في الذهاب عن هذا مع وضوحه؟ وما الحجة في الكفر بالله مع تظاهر نعمه الظاهرة من الإدراك والعقل والصوت والتكلم والإيماء؟ وأيضا فمن النعم الخيرات العظيمة المتعلقة بالإنفاق ، وما العلة في التعزز على الله وعلى أنصار دينه بالمال وهو المعطي له وهو الممكن من الانتفاع به سبحانه وتعالى دل عباده على الوجوه الفاضلة التي تنفق فيها الأموال ، وعرف الكافر أن إنفاقه كان فاسدا وغير مفيد ، وهنا نعرف ونعرب عن وظائف اللسان والشفتين في التكلم والصوت والإيماء فنقول : الإيماء في الغالب يكون ببعض حركات إرادية وغير إرادية للحواس أو الجذع والأطراف. وهذا النوع من الإيماء يسمى بالإشارة الخرسية ، ويزداد وضوح هذه الحركات إذا حصل للوجه تغيرات مختلفة في لونه وحركاته وغيرهما ، وهذه التغيرات ينطبع منها في الوجه هيأة مخصوصة تسمى بالهيئات الوجهية أو الأمارات الوجهية والأوهام ، والانفعالات النفسية قد يحصل منها تأثير شديد الجملة من الأعضاء ، وتتضح في ظاهر الجسم بواسطة التنوعات المخصوصة التي تحصل لكل من أوضاع الجسم وحركات الأعضاء والأمارات الوجهية والنفس والصوت ، وهذه الظواهر متى كانت حاصلة بالإرادة ، ساعدت الكلام في توضيح الأفعال الذهنية ، فإن بعض الحركات وإن كان ناشئا عن اصطلاح بين الناس إلا أن الغالب منها