إعانة هذه الحواس على جزئياتها ، فظهر أن السبب الأول المحدث لهذه المعارف في النفوس والعقول هو أنه تعالى أعطى هذه الحواس أفئدة ، أي مراكز ، ولكل مركز إحساس مخصوص ، والكل يعاون بعضها بعضا ، فلهذا السبب قال تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [النّحل : الآية ٧٨]. ليصير حصول هذه الحواس سببا لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطريق الذي ذكرناه ، فهذه أبحاث شريفة عقلية محضة مدرجة في هذه الآيات ، وقال المفسرون : وجعل لكم السمع لتسمعوا مواعظ الله ، والأبصار لتبصروا دلائل الله ، والأفئدة لتعقلوا عظمة الله. والأفئدة جمع فؤاد ؛ نحو أغربة وغراب ، قال الزجاج : ولم يجمع فؤاد على أكثر العدد ، وما قيل فيه فؤدان كما قيل غراب وغربان. وأقول لعل الفؤاد إنما جمع على بناء جمع القلة تنبيها على أن السمع والبصر كثيران ، وأن الفؤاد الممد لهما قليل ؛ لأن الفؤاد إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية ، وأكثر الخلق ليسوا كذلك ، بل يكونون مشغولين بالأفعال البهيمة والصفات السبعية ، فكأن فؤادهم ليس بفؤاد ؛ فلهذا السبب ذكر في جمعه صيغة جمع القلة ، فإن قيل : قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) [النّحل : الآية ٧٨]. عطف على قوله : (أَخْرَجَكُمْ) [النّحل : الآية ٧٨]. وهذا يقتضي أن يكون جعل السمع والبصر متأخرا عن الإخراج من البطن ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، فالجواب أن حرف الواو لا يوجب الترتيب ، وأيضا إذا حملنا السمع على الاستماع ، والأبصار على الرؤية زال السؤال.
وفي الظواهر الإلهامية والذهنية مباحث :
«المبحث الأول في الظواهر الإلهامية» :
حيث كان الإنسان موضوعا في وسط العالم ، فلا يمكنه أن يعيش ويحفظ نفسه إلا بمخالطته للأجسام المحيطة التي يأخذ منها وسائط معيشته ، وأعضاء الحواس والجهاز العصبي هما المعدان لمخالطته لهذه الأجسام كي يعرف بهما ما ينفعه منها وما لا ينفعه أو يضره فيسعى في تحصيل الأولى وترك الثانية ، ولهذه المخالطة أسباب ووسائط موجودة فيه ، فالأسباب احتياجاته ، والوسائط أعضاء الحواس السابق ذكرها ، وينبوع هذه الاحتياجات منوط بوجود الحياة ، وتدرك هذه الاحتياجات في الإنسان بمركز المخالطة ، ومتى كانت الأجسام الأجنبية غير مخالطة للسطح الظاهر من الجسم وكان مركز الإدراك جاهلا لها ، فلا ينتج من ذلك إلا مشقة محيرة لا يمكن التعبير عنها تؤدينا إلى سعي لا تعرف غايته ، وربما شبه ذلك بحركات الجنين لا سيما عند قرب ولادته ، وبصراخه أيضا بعد خروجه من الرحم ،