بهذا الإحساس المذكور فإنا لو لامسنا قطعة من الجلد مثلا ولامسنا جسما آخر أبرد منا لظهرت لنا سخونته ؛ ولذلك يظهر لنا أن الأماكن المنخفضة حارة في الشتاء وباردة في الصيف لكونها حافظة لحرارتها بخلاف الهواء الخارج فإن حرارته تتغير ، فإن قلت : كيف يظهر لنا سخونة الجسم الذي هو أقل حرارة؟ فنقول في الجواب عن ذلك ، حيث إننا اعتدنا الانغمار في الهواء الذي هو أبرد منا ودائما جاذب لمقدار من حرارتنا : فالوظائف الحافظة لأجسامنا تعتاد تناقص جزء من حرارتنا ، ومتى كانت درجة الحرارة في الهواء زائدة فالجزء المعتاد خروجه لا يخرج كله ، والزائد منه الباقي في الجسم هو الذي بسببه نحس بالحرارة ، فإذا يمكن أن نقول : إن الإحساس المستشعر به إما أن يكون بالبرودة ، وإما أن يكون بالحرارة على حسب كون المقدار الخارج من الجسم أقل أو أكثر من المقدار المعتاد تناقصه منه بواسطة الهواء الذي اعتدنا المعيشة فيه ، والموصلات الجيدة للحرارة هي الأجسام الكثيفة جدا ، فالرخام والمعادن يظهر لنا أنها باردة جدا مع أنها ليست كذلك في الواقع وذلك لكونها تجذب الحرارة منا بسرعة ، وكذلك الأجسام الملساء فإنه يظهر لنا أنها باردة ؛ لأنها إذا كانت بهذه المثابة يلحق اللمس جميع أجزاء أسطحتها في آن واحد ؛ ولأنها تصير أيضا جاذبة لحرارة ذلك الجذب ، والتأثيرات الحاصلة للحواس المتجهة للمخ هي الينبوع الكلي للإدراك ، وقد ذكر بعضهم أن ما تتجه إليه التأثيرات الحسية من المخ هو النخاع المستطيل لما ظهر له أن بينه وبين أعضاء الحس في النمو ارتباطا ، وأن فيه تندغم الأعضاء الحسية إلا العصب الشمي والأعصاب الجلدية والله سبحانه وتعالى أعلم.
«المقالة العشرون»
في قوله تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٨) [النّحل : الآية ٧٨].
وفيه مسائل : (الأولى) : قرأ حمزة والكسائي (أمهاتكم) بكسر الهمزة ، والباقون بضمها ، وأمهاتكم أصله أماتكم ، إلا أنه زيد الهاء فيه كما زيد في أراق ، فقيل : أهراق. وشذت زيادتها في الواحدة ، في قوله : أمهتي خندق وإلياس أبي.
«المسألة الثانية» :
أشار تعالى إلى أن الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء ، كما قال : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [النّحل : الآية ٧٨]. ثم تفضل عليه