مضي بعض سنين عليها لوجد ثقلها غير ناقص عما كان عليه في حال وضعها ، ثم إن الروائح ليست كلها على نسق واحد في الدقة والانتشار ، فإن الورد لا تنتشر رائحته إلا في مسافة قليلة بخلاف المسك والكافور ، فإن رائحتها تدرك من بعد ، والهواء الجوي يسهل تحمله للروائح إذا كان كثير الحرارة أو الرطوبة ، فقد علم أن الهواء لا يتحمل الأصول العطرية الموجودة في بستان ذي أزهار كثيرة في وقت الصباح عند تصاعد الندى ، وتجزئته بواسطة الأشعة الشمسية.
«المبحث الثامن في الشم» :
الشم هو الواسطة التي بها تدرك التصعدات الرائحية للأجسام ، فهو لنا كحارس يعرفنا أن الأشياء من الضر منها ، فنهتدي به إلى الأشياء اللذيذة ، ونتباعد عن الأشياء المضرة ، ومجلسه الغشاء المخاطي المغشي للحفر المخاطبة النخامية المفرغة فيه أعصاب كثيرة دقيقة لينة آتية من العصب الأول المخي وهذا الغشاء مندي دائما بمادة مخاطية غريزة تحفظ رطوبته على الدوام ، وتلطف قوة التصعدات الشديدة ، ومنفعة الجيوب الجبهية والمصفوية والوتدية والفلكية أنها تجعل في الحفر الأنفية اتساعا عظيما في الإحساس وقوة زائدة ، فلذلك لما كانت الجيوب الوتدية في الطب عظيمة جدا كان شمه دقيقا ، وأهم مجلس الشم هو الحفر الأنفية التي يتفرع فيها عصب الزوج الأول ، وفروع أخر من الروح الخامس الذي به تكتسب إحساسا آخر غير منوط بالشم ، وكيفية الشم أن يحمل الهواء التصعدات الرائحية ، ثم يدخل بها في الحفر الأنفية في حال الشهيق ، فعند ذلك تصير الأطراف الدقيقة للأعصاب الشمسية التي رطوبتها محفوظة دائما بالمادة المخاطية الأنفية قابلة لأن تتأثر من هذا الهواء ، فالتأثرات التي تحصل فيها تتجه على المخ ، فعند ذلك ينشأ الحس الشمي ، فيدخل الهواء العطري في الجيوب ، ويقف فيها ، ثم يخرج منها بواسطة الخياشيم المنفتحة ، ثم عن حكمة الباري تعالى في كون وضع الأنف متجها إلى الأسفل هي قبول التصعدات الرائحية المرتفعة من الأرض ، فهو كصيوان الأذن يجمع هذه التصعدات وتوجهها نحو الجزء العلوي من الحفر النخامية ، وهذه المنفعة التي جعلها تعالى للأنف مهمة جدا من حيث إن فقدانها يضر كثيرا وينقض إدراك الروائح ، وتقارب أعصاب الشم من منشئها أوجبنا ؛ لأن نفرض أن انتقال التأثر الحاصل فيها سريع سهل ما أمكن كما اتضح هذا من نتائج شم الروائح القوية جسدا كشم روح النوشادر في حال الاختناق أو الإغماء على أن ارتباط المشاركة التي بين الحجاب الحاجز والغشاء النخامي ، تتضح به النتائج الجيدة للروائح المذكورة اتضاحا كليا (اعلم) أن الغشاء النخامي كسائر أعضاء الحواس تحصل فيه كيفيتا إحساس ظاهرتان جدا إذ العصب الشمي