قصة مريم (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم : ٢٦] ومنه قولهم : صامت الريح ، إذا ركدت وسكنت ، وصامت الفرس ، إذا أمسكت عن العلف ، قال النابغة :
خيل صيام وخيل غير صائمة |
|
تحت العجاج وأخرى تعلك اللّجما |
وفي الشرع : هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج ، بنيّة من أهله ؛ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
(كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) قيل : إن وجه الشبه هو وجوب الصوم ، وقيل : مقداره ، وقيل : كيفيته. من الكف عن الأكل والشرب ، وقد ذكر القائلون بالأخيرين روايات تؤيد ما ذهبوا إليه ، منها أنه كان المفروض على اليهود والنصارى صوم شهر رمضان هذا ، الذي كلّف الله المسلمين بصومه ، وزعموا أن اليهود تركت هذا الشهر إلى صوم يوم زعموا أنه الذي غرق فيه فرعون.
أما النصارى فقد صادفوا في رمضان حرّا شديدا ، فحولوه إلى وقت لا يكون حرّا ، ثم قالوا عند التحويل : نزيد فيه عشرا ، ثم اشتكى ملكهم فزادوا سبعا ، ثم اشتكى الملك الذي بعده فقال : ما بال هذه الثلاثة فتمّ لهم صوم خمسين يوما ، وهناك روايات غير هذه ، كلّها تفتقر إلى الإثبات وعلم حقيقة ما كتب على الذين من قبلنا ، وما دام التشبيه لا يحتاج لأكثر من وجه من وجوه المماثلة ، ونحن نقطع بأن من كان قبلنا قد أوجب الله عليهم الصيام ، فما حاجتنا بالجري وراء أخبار تحتاج في إثباتها إلى عناء وجهد قد لا تصل بعدهما إلى ما يثبت المدعى؟
نحن لا ننكر هذه الأخبار ، أو ما اشتملت عليه ، بل نقول : إنها تفتقر إلى الإثبات ، وفهم الآية غير متوقّف عليها ، إذ يكفي في فهم الآية أن يكون الله قد كتب صوما ما على الذين من قبلنا ، وتلك حقيقة يسلّم بها جميع أهل الأديان ، وهم يتعبدون بها إلى اليوم ، والمطّلعون على التاريخ القديم يقولون : إن التاريخ يدل على أنه لم تخل شريعة من الشرائع من فرض الصوم ، وإنما اختلف الصوم في الأمم السابقة في ماهيته ، وكيفيته ، ومقداره ، وما دام الله لم يبين لنا ماهية الصوم عند الذين من قبلنا وكيفيته ومقداره ؛ فما حاجتنا إلى البحث وراءه ، ولو علم الله في بيانه خيرا لبينه؟
قال الزجاج (١) : إن (كَما) هنا في موضع نصب على المصدر ، والمعنى : فرض عليكم الصيام كفرضه على الذين من قبلكم. وقال أبو علي (٢) : هو صفة
__________________
(١) إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق عالم بالنحو واللغة ولد ومات في بغداد ، انظر الأعلام للزركلي (١ / ٤٠).
(٢) الحسن بن أحمد الفارسي ، أحد الأئمة في علم العربية توفي في بغداد سنة (٣٧٧ ه) انظر الأعلام للزركلي (٢ / ١٧٩).