يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي ولكم يا أولي العقول فيما شرعت لكم من القصاص حياة وبقاء ، لعلكم تتقون القصاص ، فتنتهوا عن القتل.
وإنما كان في شرع القصاص حياة ، لأنّ الناس إذا علموا أن من قتل يقتل كفّ بعضهم عن بعض. فإذا همّ أحد بقتل أخيه أوجس خيفة من القصاص ، فكفّ عن القتل ، فكان في ذلك حياة له ؛ وحياة لمن أراد قتله ؛ وحياة لغيرهما من الناس ، فربما وقعت الفتنة بالقتل ، فيقتل فيها خلق كثير ، وشرع القصاص حاجز لذلك كله ، وهذا على أنّ المراد بالقصاص شرع القصاص ويمكن أن يراد منه القصاص نفسه ، ويكون المعنى أن في القصاص نفسه حياة ، لأنّ القاتل إذا اقتصّ منه كان عبرة لغيره ، فيرتدع من يهمّون بالقتل ، فلا يقتلون ولا يقتلون ، فكان القصاص سببا للحياة ، وهناك وجه آخر ذكره السدي فقال : ولكم في القصاص حياة أي بقاء ، لا يقتل إلا القاتل بجنايته.
وقد نقل الله بهذه الآية العقوبات من معنى إلى معنى سام جليل : فقد كانت العقوبات انتقاما في الأزمنة السالفة ، ينتقم بها المجتمع من المجرمين ، فجعل الله الغرض منها الاستصلاح (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) ولم يقل انتقام ، ولقد رقت قلوب قوم من رجال التشريع الوضعي!! فاستفظعوا قتل القاتل ، ورحموه من القتل!! ولقد كان المقتول ظلما أولى برحمتهم وعطفهم ، وإذا رحموا القاتل فمن يرحم المجتمع الذي يكثر فيه المجرمون الفسّاد ، ولعمرنا إنهم نظروا نظرة ضيقة ، ولو نظروا نظرة عامة شاملة لكانت رحمتهم هذه هي التي تدعوهم إلى القصاص والقسوة فيه ، فإنّ من يرحم الناس يسعى لتقليل الشر عنهم ، وكف عادية المعتدين.
فقسا ليزدجروا ، ومن يك حازما |
|
فليقس أحيانا على من يرحم |
ولقد عبّرت العرب عن هذا المعنى بعبارات مختلفة ، منها قولهم : قتل البعض إحياء للجميع ، وقولهم : أكثروا القتل ليقلّ القتل ، وأجود ما قالوه في ذلك قولهم : القتل أنفى للقتل.
والنظم الكريم (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) قد فاق تلك بمراحل ، ويدل على ذلك أمور :
١ ـ أنها أخص.
٢ ـ أن قولهم : القتل أنفى للقتل ظاهره أن القتل سبب في نفي القتل ، وهو محال ، بخلاف الآية ، فإنّها جعلت القصاص ، وهو نوع من القتل ، فيه نوع من الحياة ، بدليل التنكير ، ولا إحالة في أن يكون نوع من القتل سببا لنوع من الحياة.
٣ ـ أن القتل ظلما قتل ، وليس نافيا للقتل ، بل هو أدعى للقتل ، فيكون ذلك مبطلا لظاهر عموم قولهم. وثمّ وجوه أخرى لم نشأ الإطالة بها.