وكان الظاهر أن
يقال بدل (وَلِيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ليعلّموا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يفقهون ، لكنه
اختير ما في النظم الجليل للإشارة إلى أنّه ينبغي أن يكون غرض المعلّم الإرشاد
والإنذار ، وغرض المتعلم اكتساب الخشية لا التبسط والاستكبار.
قال حجة
الإسلام الغزالي رحمهالله : كان اسم الفقه في العصر الأول اسما لعلم الآخرة ،
ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال ، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا ، وشدة
التطلع إلى نعيم الآخرة ، واستيلاء الخوف على القلب ، ويدل عليه هذه الآية ، فما
به الإنذار والتخويف هو الفقه ، دون تعريفات الطلاق واللعان والسلم والإجارات.
وسأل فرقد
السبخي الحسن عن شيء فأجابه فقال : إن الفقهاء يخالفونك ، فقال الحسن : ثكلتك أمك!
هل رأيت فقيها بعينك ، إنما الفقيه الزاهد في الدنيا ، الراغب في الآخرة ، البصير
بدينه ، المداوم على عبادة ربه ، الورع الكافّ عن أعراض المسلمين ، العفيف عن
أموالهم ، الناصح لجماعتهم ، ولم يقل في جميع ذلك الحافظ لفروع الفتاوى ا ه.
قال الله تعالى
: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ
غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣))
الغلظة : الشدة
في القتال والعنف في القتل والأسر ونحو ذلك.
وروي عن الحسن
أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥].
والمحققون على
أنه لا نسخ إذ لا تعارض بين هذه الآية والآيات التي زعمها الحسن ناسخة. فقوله
تعالى : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ورد في الأمر بقتال المشركين جميعا في أي مكان كانوا.
والآية التي معنا للإرشاد ، ورسم الخطة المثلى في قتل الكفار ، إذ من المعلوم أنه
لا يمكن قتال جميع الكفار ، وغزو جميع البلاد في وقت واحد ، فكان أحسن الخطط في
قتالهم البدء بقتال الأقرب فالأقرب ، حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد ، وبذلك يحصل
الغرض من قتال المشركين كافّة.
__________________