الثاني ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» (١).
الثالث فعل الصحابة. وهو من وجهين :
أحدهما : أن أهل مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح مستقبلين لبيت المقدس مستدبرين للكعبة ، لأنّ المدينة بينهما ، فقيل لهم : ألا إنّ القبلة قد حوّلت إلى الكعبة ، فاستداروا في الصلاة من غير طلب دليل على القبلة ، ولم ينكر النبي عليه الصلاة والسلام عملهم (٢). وسمي مسجدهم بذي القبلتين ، ولا يعقل أن العين تستقبل عين الكعبة إلا بعد الوقوف على أدلة هندسية يطول النظر فيها ، ولم يتعلّموها ، ولا يمكن أن يدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وظلمة الليل.
والوجه الثاني : أنّ الناس من عهد النبي عليهالسلام بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام ، ولم يحضروا مهندسا عند تسوية المحراب ، ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة.
الدليل الرابع من أدلة الحنفية القياس : هو أن محاذاة عين الكعبة لو كانت واجبة ولا سبيل إليها إلا بمعرفة الطرق الهندسية لوجب أن يكون تعلم الدلائل الهندسية واجبا ، لأنه لا يتم الواجب إلا به ، وما لا يتمّ الواجب إلا به واجب ، ولكنّ تعلّم الدلائل الهندسية غير واجب ، فعلمنا أنّ استقبال عين الكعبة غير واجب ، هذا مجمل أدلة الأئمة رضوان الله عليهم ، وأنت ترى أنه ربما كان لفظ الآية ، وكون (الشطر) بمعنى الجهة شاهدين يرجّحان أدلة الحنفية والمالكية.
وكأنّ الشافعية أحسوا صعوبة التوجه إلى عين الكعبة خصوصا من غير المشاهد. فقالوا : فرض المشاهد إصابة العين حسّا ، وفرض غير المشاهد إصابته قصدا. وبعد أن نراهم يصرحون بذلك يكاد الخلاف عديم الفائدة ، فإنّ الكل يعتقد أن التوجه إلى القبلة أيا كانت فيه شعور بقصد الكعبة.
هذا وقد انبنى على هذا الخلاف خلاف آخر في حكم الصلاة فوق الكعبة ، فمشى الحنفية على مذهبهم من أن القبلة الجهة ، من قرار الأرض إلى عنان السماء ، فأجازوا الصلاة فوقها مع الكراهية ، لما في الاستعلاء عليها من سوء الأدب ، ومنع غيرهم من صحة الصلاة فوقها ، لأن المستعلي عليها لا يستقبلها ، إنما يستقبل شيئا غيرها ، وبقية الفروع تعرف في الفقه ، فلا نطيل بذكرها ، غير
__________________
(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٢ / ١٧١ ـ ١٧٣) في كتاب الصلاة ، باب ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة ، حديث رقم (٣٤٢ ، ٣٤٣ ، ٢٤٤).
(٢) سبق تخريجه.