النفوس تعاطيه ، فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذا المجمل أولا ثم أردفه بالتفصيل.
وفي اختيار هذا الأسلوب التفصيلي ـ مع أنه كان يكفي أن يقال : للرجال والنساء نصيب إلخ ـ اعتناء بشأن النساء ، وإيذان بأصالتهن في استحقاق الإرث ، ومبالغة في إبطال حكم الجاهلية ، بإلغاء ما كانوا يعتبرونه من الأوصاف الخاصة بالرجال سببا مضموما إلى القرابة في استحقاق الميراث ، فالله قد أهدر وصف الرجولة في ميراث الإنسان من والديه وأقاربه ، وجعل سبب هذا التوارث القرابة فحسب ، والرجال والنساء سواء في ذلك ، فكما يكون للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ، يكون للنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون.
ومن العلماء من عمّم في الرجال والنساء ، فجعل المراد من الرجال الذكور مطلقا ، سواء أكانوا كبارا أم صغارا ، والمراد من النساء الإناث كذلك ، ويكون المراد التسوية بين الذكور والإناث في أنّ لكل منهما حقا فيما ترك الوالدان والأقربون ، ومنهم من حمل الرجال على الصغار من الذكور ، وحمل النساء على الصغار من الإناث كذلك ، وعلل هذا الاقتصار بأن فيه اعتناء بشأن اليتامى ، وردّا صريحا على طريقة الجاهلية في التوريث.
وعلى كل حال فظاهر الآية يشهد للحنفية القائلين بتوريث ذوي الأرحام ، لأنّ العمات والخالات وأولاد البنات من الأقربين ، فوجب دخولهم تحت قوله سبحانه : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) إلخ فثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بهذه الآية ، وأما المقدار فمستفاد من دلائل أخر كما هو الحال في غيرهم.
وحاول الإمام الرازي (١) الردّ على الحنفية ، فادعى أنّ المراد من الأقربين الوالدان والأولاد ، وحينئذ لا يدخل فيهم ذوو الأرحام ، وعليه يكون عطف الأقربين على الوالدين من عطف العام على الخاص ، وهو تأويل ظاهر التكلف.
وقوله تعالى : (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) بدل من (ما) الثانية ، بإعادة العامل ، ويقدّر مثل هذا في الجملة الأولى ، والفائدة منه التنصيص على أن التوريث يكون في التركات الضئيلة ، كما يكون في التركات العظيمة ، وفيه أيضا دفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة ، وبذلك تنقطع طماعية الكبار من الورثة في أن يختصوا بمثل السيف والخاتم والمصحف واللباس البدني.
وكلمة (نَصِيباً مَفْرُوضاً) مصدر مؤكد بتأويله بمعنى العطاء ، أو حال ، وأصل الفرض الحز في الشيء ، ويسمّى الحز في سية القوس فرضا ، ثم توسّع فيه ، فاستعمل بمعنى القطع والتقدير ، وما أوجبه الله تعالى ، وأولى المعاني هنا في كلمة (مَفْرُوضاً) أنها بمعنى مقدّرا.
__________________
(١) في كتابه : مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (٩ / ١٩٥).