فالله تعالى جعل في هذه الآيات المبايعات على ثلاثة أقسام : بيع بكتابة وشهود ، وبيع برهان مقبوضة ، وبيع بالأمانة ، فلما أمر في الآية الأولى بالكتابة والإشهاد ، أشار في الآية الثانية إلى أنه ربما يتعذّر أمر الكتابة والإشهاد في حالة السفر ، فذكر نوعا آخر من الاستيثاق : وهو الرهن الذي هو أبلغ في الاحتياط من الكتابة والإشهاد ، وأوصي في النوع الثالث بما يليق به ثم قال : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) بعض المفسرين يرى أن هذه الجملة كالتأكيد لقوله : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) مع ما فيها من زيادة تزعج الشاهد ، وتحمله على أداء الشهادة وهي قوله : (وَمَنْ يَكْتُمْها) إلخ.
وأسند الإثم إلى القلب ، لأن الكتمان مما اقترفه ، كما يسند الزنى إلى العين والأذن بمثل هذا الاعتبار.
وبعض آخر من المفسرين يصحّح ارتباط هذه الجملة بقوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) على معنى أنه إذا أمن الدائن المدين ، ولم يكتب ، ولم يشهد ، ولم يأخذ رهنا لحسن ظنه به ، كان من الجائز أن يجحد المدين ، وأن يخلف ظنّ الدائن ، وكان من الجائز الذي يقع كثيرا أن يطّلع بعض الناس على هذه المعاملة. فهنا ندب الله تعالى من يطّلع على هذه المعاملة ليشهد للدائن بحقه ، وحذّره من كتمان الشهادة ، سواء أعرف صاحب الحق تلك الشهادة أم لم يعرف ، وشدّد فيه بأن جعله آثم القلب إن كتمها ، ويدل لصحة هذا المعنى ما روي عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «خير الشّهود من شهد قبل أن يستشهد» (١).
و (آثِمٌ) خبر إنّ ، و (قَلْبُهُ) مرفوع به ، ويجوز أن يكون قلبه مبتدأ ، و (آثِمٌ) خبرا مقدما ، والجملة خبر إنّ (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فيجازيكم به إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فاحذروا من الإقدام على هذا الكتمان ، وامتثلوا ما أمركم به ، والله سبحانه أعلم. وصلّى الله على محمد وآله وصحبه ، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ، والحمد لله رب العالمين.
__________________
(١) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٣٤٤) ، ٣٠ ـ كتاب الأقضية ، ٩ ـ باب بيان خير الشهود حديث رقم (١٩ / ١٧١٩) بلفظ مختلف ورواه ابن ماجه في السنن (٢ / ٧٩٢) ، كتاب الأحكام ، باب الرجل عنده الشهادة حديث رقم (٢٢٦٤).