فقيل : يا رسول الله ، وما هذه الواحدة؟ قال : فقبض يده ، وقال : الجماعة ، وقرأ (١) : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً)» ، وقال قتادة وغيره : حبل الله الّذي أمر بالاعتصام به : هو القرآن (٢) ، ورواه أبو سعيد الخدريّ ، عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم (٣) ، وقال ابن زيد : هو الإسلام (٤) ، وقيل غير هذا ممّا هو كلّه قريب بعضه من بعض.
وقوله تعالى : (وَلا تَفَرَّقُوا) : يريد : التفرّق الّذي لا يتأتّى معه الائتلاف ، كالتفرّق بالفتن ، والافتراق في العقائد ، وأما الافتراق في مسائل الفروع والفقه ، فليس بداخل في هذه الآية ، بل ذلك هو الذي قال فيه صلىاللهعليهوسلم : «خلاف أمّتي رحمة» (٥) ، وقد اختلفت الصّحابة
__________________
(١) أخرجه ابن ماجة (٢ / ١٣٢٢) ، كتاب «الفتن» ، باب افتراق الأمم ، حديث (٣٩٩٣) ، من حديث أنس.
وقال البوصيري في «الزوائد» (٣ / ٢٣٩) : هذا إسناد صحيح ؛ رجاله ثقات.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٧٨) ، وذكره الماوردي بنحوه في «تفسيره» (١ / ٤١٢) ، والبغوي في «تفسيره» (١ / ٣٣٣) ، وابن عطية (١ / ٤٨٣)
(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٠٧) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة ، وابن جرير.
(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (١ / ٤١٤) ، وابن عطية في «تفسيره» (١ / ٤٨٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٠٨)
(٥) قال السخاوي في «المقاصد» (ص ٢٦ ـ ٢٧) : أخرجه البيهقي في «المدخل» من حديث سليمان ابن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «مهما أوتيتم من كتاب الله ، فالعمل به لا عذر لأحد في تركه ، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية ، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي ، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء ، فأيما أخذتم به اهتديتم ، واختلاف أصحابي لكم رحمة» ، ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني ، والديلمي في مسنده بلفظه سواء ، وجويبر ضعيف جدا ، والضحاك عن ابن عباس منقطع ، وقد عزاه الزركشي إلى كتاب «الحجة» لنصر المقدسي مرفوعا من غير بيان لسنده ولا صحابيه ، وكذا عزاه العراقي لآدم بن أبي إياس في كتاب «العلم والحكم» بدون بيان بلفظ : «اختلاف أصحابي رحمة لأمتي» قال : وهو مرسل ضعيف ، وبهذا اللفظ ذكره البيهقي في رسالته الأشعرية بغير إسناد ، وفي «المدخل» له من حديث سفيان عن أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد قال : اختلاف أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم رحمة لعباد الله. ومن حديث قتادة ؛ أن عمر بن عبد العزيز كان يقول : ما سرني لو أن أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم لم يختلفوا ؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة. ومن حديث الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد قال : أهل العلم أهل توسعة ، وما برح المفتون يختلفون فيحل هذا ويحرم هذا ، فلا يعيب هذا على هذا إذا علم هذا. وقد قرأت بخط شيخنا : إنه (يعني هذا الحديث) حديث مشهور على الألسنة ، وقد أورده ابن الحاجب في «المختصر» في مباحث القياس بلفظ : «اختلاف أمتي رحمة للناس» ، وكثر السؤال عنه ، وزعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له ، لكن ذكره الخطابي في «غريب الحديث» مستطردا ، وقال : اعترض على هذا الحديث رجلان ، أحدهما ماجن والآخر ملحد ، وهما إسحاق الموصلي وعمرو بن بحر الجاحظ ، وقالا جميعا : لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا ، ثم تشاغل الخطابي برد هذا الكلام ، ولم يقع في كلامه شفاء في عزو الحديث ، ولكنه أشعر بأن له أصلا عنده ، ثم ذكر شيخنا شيئا مما تقدم في عزوه.