وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ...) الآية : هو فرض الحجّ في كتاب الله ؛ بإجماع ، وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «حجّ البيت» ؛ بكسر الحاء ، وقرأ الباقون بفتحها (١) ، / فبكسر الحاء : يريدون عمل سنة واحدة ، وقال الطبريّ (٢) : هما لغتان الكسر : لغة نجد ، والفتح لغة أهل العالية.
وقوله سبحانه : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) «من» : في موضع خفض بدل من «النّاس» ، وهو بدل البعض من الكلّ ، وقال الكسائيّ وغيره : هي شرط في موضع رفع بالابتداء ، والجواب محذوف ، تقديره : فعليه الحجّ ؛ ويدلّ عليه عطف الشرط الآخر بعده في قوله : (وَمَنْ كَفَرَ) ، وأسند الطبريّ إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم ؛ أنه قال : «من ملك زادا وراحلة ، فلم يحجّ ، فلا عليه أن يموت يهوديّا أو نصرانيّا (٣) ، وذهب جماعة من العلماء إلى أنّ قوله سبحانه : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) كلام عامّ لا يتفسّر بزاد ولا راحلة ، ولا غير ذلك ، بل إذا كان مستطيعا غير شاقّ على نفسه ، فقد وجب عليه الحجّ ، وإليه نحا مالك في سماع أشهب ، وقال : لا صفة في هذا أبين ممّا قال الله تعالى. هذا أنبل الأقوال ، وهذه من الأمور التي يتصرّف فيها فقه الحال ، والضمير في «إليه» عائد على البيت ، ويحتمل على الحجّ.
وقوله سبحانه : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) ، قال ابن عبّاس وغيره : المعنى : من زعم أنّ الحجّ ليس بفرض عليه (٤) ، وروي عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ؛ أنه قرأ هذه الآية ، فقال رجل من هذيل : يا رسول الله : من تركه ، كفر ، فقال له النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «من تركه ، لا
__________________
(١) ينظر : «السبعة» (٢١٤) ، و «الكشف» (١ / ٢٥٣) ، و «الحجة» (٣ / ٧١) ، و «العنوان» (٨٠) ، و «حجة القراءات» (١٧٠) ، و «إعراب القراءات» (١ / ١١٧) ، و «شرح شعلة» (٣٢٠) ، و «شرح الطيبة» (٤ / ١٦٢) ، وإتحاف» (١ / ٤٨٥) ، و «معاني القراءات» (١ / ٢٦٨)
(٢) ينظر : «تفسير الطبري» (٣ / ٣٦٦)
(٣) أخرجه الدارمي (٢ / ٢٩) ، كتاب «الحج» ، باب من مات ولم يحج. وأبو نعيم في «الحلية» (٩ / ٢٥١) ، من طريق شريك ، عن ليث ، عن عبد الرّحمن بن سابط ، عن أبي أمامة مرفوعا.
ومن هذا الوجه أورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (٢ / ٢١٠ ـ بتحقيقنا) ، وقال : لا يصح. وأعله بالمغيرة بن عبد الرّحمن ، قال يحيى : ليس بشيء. وفيه ليث ، وقد ضعفه ابن عيينة ، وتركه يحيى القطان ، ويحيى بن معين ، وابن مهدي ، وأحمد.
قلت : ولا وجه لإعلاله بالمغيرة ؛ لأنه توبع على هذا الحديث ، تابعه الدارمي ، ومحمد بن أسلم ، عن أبي نعيم في «الحلية».
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٦٧) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١ / ٤١١) ، والبغوي في «تفسيره» (١ / ٣٣٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١٠١) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم.