النّقّاش أنه روي أنّ الكفّار قالوا للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : ارجع يا محمّد إلى ديننا ، واعبد آلهتنا ، واترك ما أنت عليه ، ونحن نتكفّل لك بكلّ تباعة تتوقّعها في دنياك وآخرتك ، فنزلت هذه الآية (١) ، وهي استفهام يقتضي التوبيخ لهم ، و (أَبْغِي) : معناه أطلب ؛ فكأنه قال : أفيحسن عندكم أن أطلب إلها غير الله الذي هو ربّ كلّ شيء ، وما ذكرتم من كفالتكم باطل ليس الأمر كما تظنّون ، فلا تكسب كلّ نفس من الشّرّ والإثم إلا عليها وحدها ، (وَلا تَزِرُ) ، أي : تحمل (وازِرَةٌ) ، أي : حاملة حمل أخرى وثقلها ، و «الوزر» : أصله الثقل ، ثم استعمل في الإثم ؛ تجوّزا واستعارة ، (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) : تهديد ووعيد ، وقوله : (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ، أي : في أمري في قول بعضكم : هو ساحر ، وبعضكم : هو شاعر ، إلى غير ذلك ؛ قاله بعض المتأوّلين ، وهذا التأويل يحسن في هذا الموضع ، وإن كان اللفظ يعمّ جميع أنواع الاختلافات بين الأديان والملل والمذاهب وغير ذلك ، و (خَلائِفَ) : جمع خليفة ، أي : يخلف بعضكم بعضا ؛ لأن من أتى خليفة لمن مضى ، وهذا يتصوّر في جميع الأمم وسائر أصناف الناس ، ولكنه يحسن في أمة نبيّنا محمد صلىاللهعليهوسلم أن يسمى أهلها بجملتهم خلائف للأمم ، وليس لهم من يخلفهم ؛ إذ هم آخر الأمم ، وعليهم تقوم الساعة ، وروى الحسن بن أبي الحسن ؛ أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «توفون سبعين أمّة أنتم خيرها وأكرمها على الله عزوجل» ، ويروى : «أنتم آخرها وأكرمها على الله».
وقوله : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) : لفظ عامّ في المال ، والقوة ، والجاه ، وجودة النفوس والأذهان ، وغير ذلك ، وكل ذلك إنما هو ليختبر الله سبحانه الخلق ، فيرى المحسن من المسيء ، ولما أخبر الله عزوجل بهذا ، ففسح للنّاس ميدان العمل ، وحضّهم سبحانه على الاستباق إلى الخيرات ، توعّد ووعد ؛ تخويفا منه وترجية ، فقال : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) إما بأخذاته في الدنيا ، وإما بعقاب الآخرة ، وحسن أن يوصف عقاب الآخرة ب «سريع» ؛ لما كان متحقّقا مضمون الإتيان والوقوع ، وكلّ آت قريب ، (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) : ترجية لمن أذنب وأراد التوبة ، وهذا في كتاب الله كثير ، وهو اقتران الوعيد بالوعد ؛ لطفا من الله سبحانه بعباده ، اللهم اجعلنا ممّن شملته رحمتك وغفرانك ، بجودك وإحسانك ، ومن كلام الشيخ الوليّ العارف أبي الحسن الشّاذليّ (رحمهالله) قال : من أراد ألّا يضره ذنب ، فليقل : ربّ أعوذ بك من عذابك يوم تبعث عبادك ، وأعوذ بك من عاجل العذاب ، ومن سوء الحساب ، فإنك لسريع الحساب ، وإنك لغفور رحيم ، ربّ إني ظلمت
__________________
(١) ذكره ابن عطية (٢ / ٣٧٠)