تعالى لنبيّه ـ عليهالسلام ـ ؛ على جهة قطع الرجاء منهم : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) أي : محنته بالكفر ، (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) ، ثم أخبر تعالى عنهم ؛ أنهم الذين سبق لهم في علمه ألّا يطهّر قلوبهم ، وأن يكونوا مدنّسين بالكفر ، (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) ؛ بالذّلّة والمسكنة الّتي ضربت عليهم في أقطار الأرض ، وفي كلّ أمّة.
قال ص : (سَمَّاعُونَ) ، أي : هم سمّاعون ، ومثله أكّالون. انتهى.
وقوله سبحانه : (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) : فعّالون ؛ بناء مبالغة ، أي : يتكرّر أكلهم ، ويكثر ، والسّحت : كل ما لا يحلّ كسبه من المال.
وقوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) : تخيير للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، ولحكّام أمّته بعده ، وقال ابن عباس وغيره : هذا التخيير منسوخ بقوله سبحانه : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) (١) [المائدة : ٤٩] ، وقال كثير من العلماء : هي محكمة ، وهذا هو الأظهر ؛ إن شاء الله ، وفقه هذه الآية أنّ الأمّة مجمعة فيما علمت على أنّ حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمّة في تظالمهم ، وأمّا نوازل الأحكام التي لا تظالم فيها ، فالحاكم مخيّر ، وإذا رضي به الخصمان ، فلا بد من رضا أساقفتهم أو أحبارهم ؛ قاله ابن القاسم في «العتبية» ، قلت : وعبارة الداوديّ قال مالك : ولا يحكم بينهم ، إذا اختار الحكم إلا في المظالم ، فيحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا يحكم فيهم في الزنا إلا أن يعلنوه ، فيعاقبون بسبب إعلانه ، ثم يردّون إلى أساقفتهم ، قال مالك : وإنما رجم النبيّ صلىاللهعليهوسلم اليهوديّين قبل أن تكون لهم ذمّة. انتهى.
وقال ابن العربيّ في «أحكامه» : إنما أنفذ النبيّ صلىاللهعليهوسلم الحكم بينهم ؛ ليحقّق تحريفهم ، وتبديلهم ، وكذبهم ، وكتمهم ما في التوراة ، / ومنه صفته صلىاللهعليهوسلم فيها ، والرجم على زناتهم ، وعنه أخبر الله تعالى بقوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [المائدة : ١٥] ؛ فيكون ذلك من آياته الباهرة ، وحججه البيّنة ، وبراهينه القاطعة الدّامغة للأمّة المخزية اليهودية. انتهى.
وقوله تعالى : (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) : أمّن الله سبحانه نبيّه من ضررهم ، إذا أعرض عنهم ، وحقّر في ذلك شأنهم ، (وَإِنْ حَكَمْتَ) ، أي : اخترت الحكم في نازلة ما ، (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) ، أي : بالعدل ، ثم قال سبحانه : (وَكَيْفَ
__________________
(١) ذكره ابن عطية (٢ / ١٩٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٠٣) ، وعزاه لابن أبي حاتم ، والنحاس في «ناسخه» ، والطبراني ، والحاكم ، وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس.