وقيل : «ما» ظرفية ، أي : ما دمتم تستحسنون النّكاح ، وضعّف ؛ قلت : وفي تضعيفه نظر ، فتأمّله.
قال الإمام الفخر : وفي تفسير (١) (ما طابَ) بما حلّ ـ نظر ؛ وذلك أنّ قوله تعالى : (فَانْكِحُوا) : أمر إباحة ، فلو كان المراد بقوله : (ما طابَ لَكُمْ) ، أي : ما حلّ لكم ـ لتنزّلت الآية منزلة ما يقال : أبحنا لكم نكاح من يكون نكاحها مباحا لكم ، وذلك يخرج الآية عن الفائدة ، ويصيّرها مجملة لا محالة ، أما إذا حملنا «طاب» على استطابة النّفس ، وميل القلب ، كانت الآية عامّة دخلها التخصيص ، وقد ثبت في أصول الفقه ؛ أنه إذا وقع التعارض بين الإجمال / والتّخصيص ، كان رفع الإجمال أولى ؛ لأنّ العامّ المخصّص حجّة في غير محلّ التخصيص (٢) ، والمجمل لا يكون حجّة أصلا. انتهى ، وهو حسن ، و (مَثْنى
__________________
(١) ينظر : «مفاتيح الغيب» (١٠ / ١٤١)
(٢) اقتضت حكمة الله أن تكون التكاليف المشروعة في كتابه وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم موضوعة على طريقة العموم وكثيرا ما تكون كذلك في البعض ، وعلى طريقة الخصوص في البعض الآخر ..
غير أن أغلب ما احتواه القرآن من عام وما اشتملت عليه السنة منه قد تطرق إليه التخصيص ، فأخرجه عن عمومه وشموله لجميع الأفراد .. وحكم العام قبل التخصيص دال على أفراده قطعا عند البعض ، وظنّا عند آخرين ... ودليل التخصيص تارة يكون عقلا ، وتارة يكون كلاما ، وتارة لا يكون عقلا ولا كلاما ، كالحس ، والزيادة ، والنقصان ، فإن كان المخصص هو العقل ، كان العام قطعيا في الباقي ؛ إذ ليس فيه ما يورث الشبهة ؛ لأن ما يقتضي العقل إخراجه فهو مخرج وغيره باق على ما كان ؛ إذ هو في حكم الاستثناء لكنه حذف اعتمادا على العقل ، فمثلا ليس في قوله الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٦] ونظائر ذلك ـ شبهة في دلالته مع خروج الصبي والمجنون بالعقل ، وإلا لما أجمعوا على كفر من جحد العمل بمقتضى الخطابات الواردة بالفرائض من مثل ما معنا ، وليس لقائل أن يقول : من الجائز أن تكون قطعيتها بواسطة الإجماع ؛ لأنا نقول : هذه الخطابات قطعية قبل أن يتحقق الإجماع. هكذا أطلق صدر الشريعة في «توضيحه» ، ولم يفصل بين ما إذا كان المخرج بالعقل معلوما أو مجهولا ؛ إذ العقل قد يقتضي إخراج بعض معلوم ، وقد يقتضي إخراج بعض مجهول ، بأن يكون الحكم مما يمتنع على الكل دون البعض مثل : «الرجال في الدار».
وقد نبه صاحب «التلويح» وغيره على أن المخرج به إن كان مجهولا فهو لا يصلح حجة حتى يتبين المراد منه ؛ لأن جهالة المخرج أورثت جهالة في الباقي ..
ولا شك أن القول بالقطعية إنما يكون على مذهب من يرى قطعية العام قبل التخصيص ، أما من يرى ظنيته فظاهر أنه يكون ظنيا بعده كما كان قبله ؛ لأن الاحتمال الذي كان من أجله الحكم بالظنية عندهم باق بعد التخصيص بالعقل ، فالحق أن إطلاق القول بالقطعية ليس على ما ينبغي ، اللهم إلا إن كان الإطلاق بناء على مذهبه.
وإن كان المخصص غير العقل والكلام فالظاهر أنه لا يبقى قطعيا ؛ لاختلاف العادات وخفاء الزيادة والنقصان وعدم إطلاع الحس على تفاصيل الأشياء ، اللهم إلا أن يعلم القدر المخصوص قطعا. ـ