أجناده من الجنّ والإنس ، وكانت الطير تظلّله من الشمس ، ويبعثها في الأمور ، وكان هؤلاء الجنود يجمعون بترتيب ونظام ، بأن يوقف أولهم ليلحق بهم آخرهم ، ويردّ أولهم على آخرهم ، لئلا يتقدم أحد عن منزلته ومرتبته ، حتى لا يتخلّف أحد منهم ، وهذا معنى قوله تعالى : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) من الوزع ، أي الكفّ والمنع ، والمعنى : يردّ أولهم على آخرهم ويكفّون.
ومن النّعم أيضا على سليمان : فهم كلام النّمل ، فبينا كان سليمان وجنوده مشاة على الأرض ، أتوا على وادي النّمل إما بالشّام أو غيرها من البلاد ، ونادت نملة هي ملكة النّمل : يا أيها النّمل ، ادخلوا بيوتكم ، حتى لا يكسرنكم سليمان وجنوده ، من غير أن يشعروا بذلك.
فتبسّم سليمان ضاحكا من قولها ، وتعجّبا من تحذيرها ، وقال داعيا ربّه في أن يعينه الله تعالى ويفرغه لشكر النّعمة ، وهذا معنى إيزاع الشكر ، يا ربّ ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والديّ ، وأن أعمل عملا صالحا ترضاه وتحبّه ، واجعلني بعد الوفاة في الجنة ، في زمرة الصالحين ، من الأنبياء والأولياء الصلحاء. وهذا دليل على أن نعمة العلم وحدها تستوجب الشكر ، وأن برّ الوالدين والدّعاء لهما بعد موتهما مطلوب مرغوب فيه.
هذا سليمان الملك العظيم يطلب من ربّه التّفرّغ للشكر ، كما يطلب من ربّه أن يوفّقه للعمل الصالح الذي يرضيه ، وأن يتغمّده برحمته وفضله في الجنة بإذن الله ، التي هي دار المتّقين ، ودار السّلام والأمان والسعادة المطلقة. فهو لم يغترّ بعمله ولا بسلطانه ، بل طلب الزيادة والمعونة والفضل حتى يدخل في عداد الصالحين. وهذا دليل على تواضع العظماء والعلماء ، وأن كل إنسان بأمسّ الحاجة إلى رحمة الله في الدنيا والآخرة ، وأن فضل الله دائم لا ينقطع ، يغمر الجميع ويحتاج إليه الجميع.