وبعد أن برئت من نفاسها ، منتقلة من المكان القصي البعيد ، فلما رأوا الولد معها ، حزنوا وأعظموا الأمر واستنكروه بشدة ، وقالوا : يا مريم ، لقد فعلت أمرا فريا عظيما شنيعا ؛ خارجا عن المألوف ، وهو الولادة بلا أب ، وكانوا أهل بيت صالحين.
يا أخت هارون أخي موسى ، لأنها كانت من نسله ، كما تقول لرجل من قبيلة : يا أخا فلانة. أو يا شبيهة هارون في العبادة ، فليست مريم إذن أختا معاصرة لهارون أخي موسى ، لأن بينهما في المدة ست مائة سنة. كيف تأتين بهذا؟ فلم يكن أبوك فاجرا عاصيا ، ولم تكن أمك زانية بغيا.
والمعنى : ما كان أبوك ولا أمك أهلا لهذه الفعلة ، فكيف جئت بها أنت؟ فأشارت مريم إلى عيسى الطفل الوليد أن يكلمهم ، مكتفية بالإشارة لأنها نذرت الصوم عن الكلام ، فقالوا لها متهكمين بها ، ظانين أنها تهزأ بهم وتحتقرهم : كيف نكلم طفلا صبيا ما يزال في المهد ، أي فراش الرضيع؟
وحينئذ ظهرت المعجزة الكبرى بنطق الرضيع ، كأنه خطيب الجماهير ، فوصف نفسه بتسع صفات ، وهي :
ـ قال عيسى : إني عبد تام العبودية لله الكامل الصفات ، الذي لا أعبد غيره ، وهذا أول اعتراف بعبوديته لربه.
ـ آتاني الكتاب ، أي أعطاني التوراة أو التوراة والإنجيل ، وقدّر لي في الأزل أن أكون ذا كتاب.
ـ وقدّر لي أن أكون نبيا ، وفي هذا تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة ، لأن الأنبياء عادة أطهار ، ليسوا أولاد زنا.
ـ وصيرني الله مباركا ، أي نافعا ، قضّاء للحوائج ، معلما للخير ، هاديا إلى الرشاد في أي مكان وجدت.