وتصوير المثل كما حكى القرآن : واضرب أيها الرسول مثلا لهؤلاء المشركين بالله الذين طلبوا منك طرد المؤمنين من مجلسك ، ذلك المثل هو حال رجلين ، جعل الله لأحدهما جنتين ، أي بستانين من أعناب ، محاطين بنخيل ، وفي وسطهما الزروع والأشجار المثمرة.
(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ...) أي أخرجت ثمارها ، ولم تنقص منه شيئا في كل عام. (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) أي وشققنا وسط الجنتين نهرا ، تتفرع عنه عدة جداول ، لسقي جميع الجوانب.
وكان لصاحب البستانين أنواع أخرى من الثمار والأموال النقدية والعينية التجارية ، فقال لصاحبه المؤمن الفقير ، وهو يجادله ويخاصمه ويحاوره الحديث ، ويفتخر عليه : أنا أكثر منك ثروة ، وأعز نفرا ، أي أكثر خدما وحشما وولدا ، وأقوى عشيرة ورهطا يدافعون عني.
ودخل هذا الثري بستانه المتعدد البقاع والجنبات ، فقال اغترارا منه ، وظلما وكفرا واستكبارا : ما أظن أن تفنى هذه الجنة (البستان) أبدا ، وما أظن أن يوم القيامة آت ، وكان في الحالين مخطئا ظالما لنفسه ، إذ قرر عدم فناء بستانه ، وأنكر وجود القيامة. وأفرد كلمة الجنة من حيث الوجود ، إذ لا يدخلهما معا في وقت واحد ، وظلمه لنفسه : كفره وعقائده الفاسدة في الشك في البعث.
ثم أقسم هذا المترف على أنه إذا رجع إلى ربه ـ على سبيل الافتراض ـ ليجدن في الآخرة عند ربه خيرا وأحسن من حظ الدنيا أو منقلبا ، أي مرجعا وعاقبة حسنة ، تمنيا على الله ، وادعاء لكرامته ومكانته عنده ، على الزعم المغلوط : أن من كان حسن الحال في الدنيا ، فهو حسن الحال في الآخرة ، كأنه من شدة العجب ببستانه وسروره به ، أفرط في وصفه ، ثم قاس حال الآخرة على الدنيا ، وظن أنه في تقلبه بالعيش