وكان لهذا اللقاء أثر آخر على المدى البعيد ، وهو أن يموت من يموت من الكفار عن حجة بينة عاينها بالبصر ، تثبت حقيقة الإسلام ، ويعيش من يعيش من المؤمنين عن حجة ، شاهدها بإعزاز الله دينه ، لئلا يكون له حجة ومعذرة ، أو ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم ببيان من الله وإعذار بالرسالة ، ويحيا أيضا ويعيش من عاش عن بيان منه أيضا ، وإعذار لا حجة لأحد عليه ، فالهلاك والحياة ـ على هذا التأويل ـ حقيقتان ، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة التي ترسخ الإيمان ، وتدفع إلى صالح الأعمال ، وإن الله لسميع عليم ، أي لا يخفى عليه شيء من أقوال الكافرين والمؤمنين ، ولا من عقائدهم وأفعالهم ، فهو سبحانه سميع لما قاله الكافرون ، وعليم بأحوالهم ، وسميع لدعاء المؤمنين وتضرعهم واستغاثتهم ، وعليم بهم وبأنهم يستحقون النصر على أعدائهم ، ويجازي كلا بما يسمع ويعلم.
واذكر أيها النبي فضلا آخر ، إذ يريك الله الكفار في منامك قليلا ، أي ضعفاء ، فتخبر أصحابك بذلك ، فتثبت قلوبهم ، وتطمئن نفوسهم ، ولو أراكهم كثيرا ، أي أقوياء في الواقع لجبنتم عنهم ، واختلفتم فيما بينكم ، وتنازعتم في شأن القتال ، فمنهم القوي الإيمان والعزيمة ، ومنهم الضعيف الذي يخشى لقاء العدو.
ولكن الله سلّم من ذلك الفشل (الجبن) والتنازع ، بأن أراكهم قليلا ، إنه تعالى عليم بذات الصدور ، أي بما تخفيه الصدور ، وتنطوي عليه النفوس من شعور الضعف والجزع الذي يؤدي إلى الإحجام عن القتال ، وعليم بالإيمان والكفر ، فيجازي بحسب ذلك. واذكر أيها الرسول والمؤمنون الوقت الذي يريكم الله الكفار قبل القتال عددا قليلا ، في رأي العين المجردة ، حتى تجرأتم وارتفعت معنوياتكم ، ويجعلكم بالفعل قلة في أعين الكفار ، فيغتروا ولا يعدّوا العدة لكم ، حتى قال أبو جهل : «إنما أصحاب محمد أكلة جزور ، خذوهم أخذا ، واربطوهم بالحبال».