وإنّما جعل دخول الزوج الثاني بها شرطا لمفهوم الآية وورود السّنة أما مفهوم
__________________
ـ أما قول القرطبي : «وأظنهما ـ أي السعيدين ـ لم يبلغهما حديث العسيلة ، أو لم يصح عندهما ؛ فأخذا بظاهر القرآن ، وهو قوله : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) والله أعلم». فأجاب عليه ابن كثير وذكر ما رواه النسائي بسنده عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقال : «وهذا من رواية سعيد بن المسيب عن ابن عمر مرفوعا ؛ على خلاف ما يحكى عنه ، فبعيد أن يخالف ما رواه من غير مستند». تفسير القرآن العظيم : ج ١ ص ٢٧٧.
وما قاله ابن كثير منصف ؛ كما أنصفه القاضي ابن العربي ، فله مستند في ذلك ؛ ووجه استدلال في المسألة ؛ أن النكاح حقيقة في العقد على الصحيح. في المفردات قال الراغب : «أصل النكاح العقد ؛ ثم استعير للجماع ، ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد ؛ لأن أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره : كاستقباحهم تعاطيه». وعلى هذا فالآية تقتضي من عقد عليها عقدا صحيحا ، ثم طلقت قبل الدخول أو مات عنها زوجها ، حلت بذلك للأول ، وهذا ما ذهب إليه الإمامان السعيدان.
وأما وجه الاعتراض على مذهب السعيدين ، فإنه قد يأتي من جهة أن العرب فرّقت بين العقد والوطء بفرق لطيف ، فإذا قالوا : (نكح فلان فلانة أو ابنة فلان) أرادوا عقد عليها. وإذا قالوا : (نكح امرأته أو زوجته) فلا يريدون غير المجامعة. وعلى هذا فالآية يفهم منها إرادة الوطء لا العقد فحسب. وهو وجه يعضده الحديث عن عائشة رضي الله عنها في حديث رفاعة القرظي ، إن لم يكن معنى آخر يصرف دلالة النص عن أصله بأن المراد بالنكاح الوطء لا العقد.
وعلى ما يبدو في استدلال سعيد بن المسيب ، أن الحديث لا يخرج دلالة النص القرآني عن حقيقة العقد ، إلا في حال تبييت النية والمغالطة ؛ فالحديث كما أخرجه البخاري في الصحيح ، وفيه قالت : «والله مالي إليه من ذنب ، إلّا أنّ ما معه ليس بأغنى عنّي من هذه ـ وأخذت هدبة من ثوبها. فقال ـ أي عبد الرحمن الزوج الثاني ـ : كذبت والله يا رسول الله ، إنّي لأنفضها نفض الأديم ، ولكنّها ناشز تريد رفاعة ـ أي الزوج الأول ـ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : [فإن كان ذلك ، لم تحلّي له ـ أو لم تصلحي له ـ حتّى يذوق عسيلتك] قال : وأبصر معه ابنين له ، فقال : [بنوك هؤلاء؟] قال : نعم. قال : [هذا الّذي تزعمين ما تزعمين؟ فو الله لهم أشبه به من الغراب بالغراب].
ومن قراءة النص ، يفهم أن الرسول صلىاللهعليهوسلم أشار إليها بذوق العسيلة مع وجود فساد نيتها وليس قبل ، مما يشير إلى سلامة قول سعيد بن المسيب. أما إذا لم تكن نيّة فاسدة ، فالأمر إلى ما قال سعيد ابن المسيب وسعيد بن جبير لا محالة ، فالأصل في صحة النكاح الثاني سلامة القصد لا التحليل ـ لنكاح الزوج الأول.