والمأخوذ عليهم ميثاقان ؛ الأوّل : حين أخرجهم من صلب آدم كالذّرّ. والثاني : الذي أخذ عليهم في التوراة وسائر الكتب. والمراد في هذه الآية الثاني ؛ وذلك أنّ الله تعالى أنزل التوراة فأمر موسى قومه بالعمل بأحكامها فأبوا أن يقبلوا ويعملوا بها للآصار والأثقال التي كانت فيها ، وكانت شريعته ثقيلة فأمر الله جبريل فقطع جبلا على قدر عسكرهم ؛ وكان فرسخا في فرسخ ، فرفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة الرّجل.
عن ابن عبّاس : (أمر الله جبلا من جبال فلسطين فانقطع من أصله حتّى قام على رؤوسهم مثل الظّلّة). وقال عطاء : (رفع الله فوق رؤوسهم الطّور ، وبعث نارا من قبل وجوههم ؛ وأتاهم البحر الملح من خلفهم). وقيل لهم : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ ؛) أي اقبلوا ما آتيناكم بجدّ ومواظبة في طاعة الله تعالى. وفيه إضمار ؛ أي وقلنا لهم خذوا.
وقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ ؛) أي احفظوه واعملوا بما فيه. وقيل : معناه : واذكروا ما فيه من الثواب والعقاب. وفي حرف أبي بكر : (وادّكروا) بدال مشدّدة وكسر الكاف. وفي حرف عبد الله : (وتذكّروا ما فيه) ومعناهما اتّعظوا به. قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٦٣) ؛ أي لكي تنجوا من العذاب في العقبى والهلاك في الدّنيا إن قبلتموه وفعلتم ما أمرتم به ؛ وإلا وضحتكم بهذا الجبل وأغرقتكم في البحر وأحرقتكم بهذه النار. فلما رأوا أن لا مهرب منه قبلوا ذلك وسجدوا خوفا ، وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود مخافة أن يقع عليهم ؛ فصارت صفة في اليهود لا يسجدون إلّا على أنصاف وجوههم ؛ فلمّا رأوا الجبل قالوا : يا موسى سمعنا وأطعنا ولو لا الجبل ما أطعنا.
قوله عزوجل : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ؛ أي أعرضتم وعصيتم من بعد أخذ الميثاق ورفع الجبل ، (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) ، بتأخير العذاب عنكم ، (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٦٤) ؛ أي لصرتم من المغبونين في العقوبة وذهاب الدّنيا والآخرة.