متمسّكين بديننا ؛ فقال الله عزوجل : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) وإنّما وحّد في أوّل الآية وجمع الضمير في آخرها ؛ لأنّ لفظ (من) للوحدان ، ومعناه يصلح للمذكّر والمؤنّث ؛ والاثنين والجماعة ؛ فعدل تارة إلى اللّفظ وتارة للمعنى ؛ ومنه قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) الآية (١) ، (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ)(٢) الآية.
قوله عزوجل : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) ؛ أي يخالفون الله ويكذبونه ويكذبون المؤمنين. ويخالفونهم في ضمائرهم وهم المنافقون. وأصل الخدع في اللغة الاختفاء ؛ ومنه قيل للبيت الذي يخبّأ فيه المتاع : مخدع ؛ فالمخادع يظهر خلاف ما يضمر. وقال بعضهم : أصل الخداع في اللغة : الفساد. وقال الشاعر (٣) :
أبيض اللّون لذيذ طعمه |
|
طيّب الرّيق إذا الرّيق خدع |
أي فسد ، فيكون المعنى : مفسدون ما أظهروا بألسنتهم مما أضمروا في قلوبهم.
وقيل : معناه : يخادعون رسول الله صلىاللهعليهوسلم كقوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ)(٤) أي آسفوا نبيّنا. وقوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ)(٥) أي أولياء الله ؛ لأنّ الله تعالى لا يؤذى ولا يخادع. وقد يكون المفاعلة من واحد كالمسافرة.
فإن قيل : ما وجه مخادعتهم الله ؛ وهو لا يخفى عليه شيء؟ وما وجه مخادعة المؤمنين ومخادعة أنفسهم؟ قيل : المخادعة الإخفاء ، يقال : انخدعت الضّبية في جحرها. والله تعالى لا يخادع في الحقيقة ، ولكن أطلق عليه اسم المخادعة لمّا فعلوا فعل المخادعين. ولو كان يصحّ لهم خداعهم لقال : يخدعون الله. وقيل : معناه : يخادعون رسول الله.
وأما مخادعة المؤمنين ؛ فإظهارهم لهم الإسلام تقية ؛ وقيل : إظهار الإسلام لهم ليكرموهم ويبجّلوهم. وقيل : أظهروا لهم ذلك ليفشوا إليهم سرّهم فينقلوه إلى
__________________
(١) البقرة : ١١٢ : .. (وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
(٢) الأحزاب : ٣١.
(٣) البيت لسويد بن أبي كاهل في ديوانه : ص ٢٤ ، يصف تغر امرأة ، وفيه معنى خدع : فسد وتغيّر.
(٤) الزخرف : ٥٥.
(٥) الأحزاب : ٥٨.