فعجب أبو طالب فنزلت السورة (١). وقال مجاهد : الثاقب المتوهج ، وجواب القسم.
(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ) أي : من الأنفس مطلقا لا سيما نفوس الناس (لَمَّا عَلَيْها) أي : بخصوصها (حافِظٌ) وقرأ ابن عامر وعاصم بتشديد الميم والباقون بتخفيفها فعلى تخفيفها تكون مزيدة ، وإن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف ، أي : إنه واللام فارقة وعلى تشديدها فإن نافية ، ولما بمعنى إلا. والحافظ : هو المهيمن الرقيب وهو الله تعالى ، (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) [الأحزاب : ٥٢] ، (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) [النساء : ٨٥] ، أو ملك يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير وشرّ. وروى الزمخشري عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه كما يذب أحدكم عن قصعة العسل الذباب ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين اختطفته الشياطين» (٢).
ولما ذكر تعالى أن على كل نفس حافظا أتبعه بوصية الإنسان بالنظر في حاله فقال تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) أي : الآنس بنفسه الناظر في عطفه نظر اعتبار في أمره ونشأته الأولى حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ، ولا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبته. وقوله تعالى : (مِمَّ خُلِقَ) استفهام ، أي : من أيّ شيء ، وجوابه.
(خُلِقَ) أي : الإنسان على أيسر وجه وأسهله بعد خلق أبيه آدم عليهالسلام من تراب وأمّه حوّاء رضي الله تعالى عنها من ضلعه. (مِنْ ماءٍ دافِقٍ) أي : مدفوق ، فاعل بمعنى مفعول كقوله تعالى : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] أو دافق على النسب ، أي : ذي دفق أو اندفاق. وقال ابن عطية : يصح أن يكون الماء دافقا ؛ لأنّ بعضه يدفق بعضا أي : يدفعه فمنه دافق ومنه مدفوق ، والدفق الصب أي : مصبوب في الرحم ، ولم يقل تعالى من ماءين فإنه من ماء الرجل وماء المرأة ، لأنّ الولد مخلوق منهما لامتزاجهما في الرحم فصارا كالماء الواحد ، واتحادهما حين ابتدئ في خلقه.
(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ) أي : للرجل وهو عظام الظهر (وَالتَّرائِبِ) أي : للمرأة جمع تربية وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة ، وعن عكرمة : الترائب ما بين ثدييها ، وقيل : الترائب التراقي ، وقيل : أضلاع الرجل التي أسفل الصدر. وحكى الزجاج : أن الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر وأربعة أضلاع من يسرة الصدر. وقال ابن عادل جاء في الحديث : «أنّ الولد يخلق من ماء الرجل يخرج من صلبه العظم والعصب ، ومن ماء المرأة يخرج من ترائبها اللحم والدم» (٣). وحكى القرطبي : أنّ ماء الرجل ينزل من الدماغ ثم يجتمع في الانثيين ، وهذا لا يعارضه قوله تعالى : (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) لأنه ينزل من الدماغ ثم يجتمع في الانثيين قال المهدودي : ومن جعل يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة لضمير للإنسان.
والضمير في قوله تعالى : (إِنَّهُ) للخالق المدلول عليه بخلق لأنه معلوم أن لا خالق سواه سبحانه وتعالى وفي الضمير في قوله تعالى : (عَلى رَجْعِهِ) وجهان أحدهما : أنه ضمير الإنسان
__________________
(١) الحديث ذكره البغوي في تفسيره ٥ / ٢٣٨.
(٢) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ٢٨٨ ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار ٣ / ٣٨ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ٢٠٩ ، والطبراني في المعجم الكبير ٧٧٠٤.
(٣) انظر القرطبي في تفسيره ٢٠ / ٦.