ولما أخرجهم من حكم الارتهان الذي أطلق على الإهلاك لأنه سببه استأنف بيان حالهم فقال تعالى : (فِي جَنَّاتٍ) أي : بساتين في غاية العظم لأنهم أطلقوا أنفسهم وفكوا رقابهم فلم يرتهنوا (يَتَساءَلُونَ) أي : فيما بينهم يسأل بعضهم بعضا أو يسألون غيرهم.
(عَنِ الْمُجْرِمِينَ) أي : عن أحوالهم ويقولون لهم بعد إخراج الموحدين من النار : (ما) محتملة للاستفهام والتعجب والتوبيخ (سَلَكَكُمْ) أي : أدخلكم أيها المجرمون إدخالا هو في غاية الضيق حتى كأنكم السلك في الثقب ، وقرأ السوسي بإدغام الكاف في الكاف والباقون بالإظهار (فِي سَقَرَ.)
فأجابوا بأن (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي : صلاة يعتدّ بها فكان هذا تنبيها على أنّ رسوخ القدم في الصلاة مانع من مثل حالهم وعلى أنهم معاقبون على فروع الشريعة وإن كانت لا تصلح منهم ، فلو فعلوها قبل الإيمان لم يعتدّ بها وعلى أنّ الصلاة أعظم الأعمال وأنّ الحسنات بها تقدّم على غيرها.
(وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي : نعطيه ما يجب علينا إعطاؤه له.
(وَكُنَّا نَخُوضُ) أي : نوجد الكلام الذي هو في غير مواقعه ولا علم لنا به إيجاد المشي من الخائض في ماء غمر (مَعَ الْخائِضِينَ) بحيث صار لنا هذا وصفا راسخا ، فنقول في القرآن : إنه سحر ، وإنه شعر ، وإنه كهانة ، وغير هذا من الأباطيل لا نتورّع عن شيء من ذلك ولا نقف مع عقل ولا نرجع إلى صحيح نقل ، فليأخذ الذين يبادرون إلى الكلام في كل ما يسألون عنه من أنواع العلم من غير تثبت منزلتهم من هنا.
(وَكُنَّا نُكَذِّبُ) أي : بحيث صار ذلك وصفا ثابتا (بِيَوْمِ الدِّينِ) أي : بيوم البعث والجزاء.
(حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أي : الموت أو مقدّماته الذي قطعنا عن دار العمل. قال الله تعالى (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩].
فإن قيل : لم أخر التكذيب وهو أخس الخصال الأربع؟ أجيب : بأنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذبين بيوم الدين ، والغرض تعظيم الذنب كقوله تعالى : (كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا.)
ولما أقرّوا على أنفسهم بما أوجب العذاب الدائم فكانوا ممن فسد مزاجه فتعذر علاجه سبب عنه قوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ) أي : في حال اتصافهم بهذه الصفات (شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي : لا شفاعة لهم فلا انتفاع بها ، وليس المراد أن ثم شفاعة غير نافعة. كقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] وهذه الآية تدل على صحة الشفاعة للمذنبين من المؤمنين بمفهمومها ؛ لأنّ تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدل على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : يشفع نبيكم عليه الصلاة والسلام رابع أربعة جبرائيل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم صلىاللهعليهوسلم وعليهم أجمعين ثم الملائكة ثم النبيون ثم الصدّيقون ثم الشهداء ، ويبقى قوم في جهنم يقال لهم (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) إلى قوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ.) قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : فهؤلاء الذين في جهنم.
(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) أي : فما لأهل مكة قد أعرضوا وولوا عن القرآن قال مقاتل