تعالى عنهم أنهم قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) [الأحقاف : ٣٠] وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة.
تنبيه : القدد جمع قدة والمراد بها الطريقة وأصلها السيرة ، يقال : قدة فلان حسنة ، أي : سيرته وهو من قدّ السير ، أي : قطعه ، فاستعير للسيرة المعتدلة. قال الشاعر (١) :
القابض الباسط الهادي بطلعته |
|
في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد |
وقال لبيد يرثي أخاه (٢) :
لم تبلغ العين كل نهمتها |
|
يوم تمشي الجياد بالقدد |
والقد بالكسر سير يقد من جلد غير مدبوغ ، ويقال : ما له قد ولا قحف ، فالقد إناء من جلد والقحف إناء من خشب.
(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ) أي : وإنا علمنا وتيقنا بالتفكر والاستدلال في آيات الله أنا في قبضة الملك وسلطانه لن نفوته بهرب ولا غيره لما له من الإحاطة بكل شيء علما وقدرة لأنه واحد لا مثل له.
تنبيه : أطلقوا الظنّ على العلم إشارة إلى أنّ العاقل ينبغي له أن يتجنب ما يتخيله ضارا ولو بأدنى أنواع التخيل ، فكيف إذا تيقن. وقولهم (فِي الْأَرْضِ) حال ، وكذلك هربا في قولهم (وَلَنْ نُعْجِزَهُ) أي : بوجه من الوجوه (هَرَباً) فإنه مصدر في موضع الحال تقديره لا نفوته كائنين في الأرض أو هاربين منها إلى السماء ، فليس لنا مهرب إلا في قبضته فأين أم إلى أين المهرب.
(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا) أي : من النبيّ صلىاللهعليهوسلم (الْهُدى) أي : القرآن الذي له من العراقة التامة في صفة البيان والدعاء إلى الخير ما سوّغ أن يطلق عليه نفس الهدى (آمَنَّا بِهِ) وبالله وصدقنا محمدا صلىاللهعليهوسلم على رسالته وكان صلىاللهعليهوسلم مبعوثا إلى الإنس والجنّ. قال الحسن : بعث الله تعالى محمدا صلىاللهعليهوسلم إلى الإنس والجن ولم يبعث الله تعالى قط رسولا من الجن ولا من أهل البادية ولا من النساء ، وذلك لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف : ١٠٩] وفي الصحيح : «وبعثت إلى الأحمر والأسود» (٣) أي الإنس والجنّ ، وفي إرساله إلى الملائكة خلاف قدّمنا الكلام عليه.
(فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ) أي : المحسن إليه منا ومن غيرنا (فَلا) أي : فهو خاصة لا (يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) قال ابن عباس : لا يخاف أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته لأن البخس النقصان والرهق العدوان وغشيان المحارم.
(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً
__________________
(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.
(٢) البيت من المنسرح ، وهو في ديوان لبيد ص ١٦٠.
(٣) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٥٢١ ، والدارمي في السير حديث ٢٤٦٧ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٥٠ ، ٣٠١ ، ٤ / ٤١٦ ، ٥ / ١٤٥ ، ١٤٨ ، ١٦٢.