(وَأَنَّهُمْ ،) أي : الإنس (ظَنُّوا) والظنّ قد يصيب وقد يخطئ وهو أكثر (كَما ظَنَنْتُمْ) أي : أيها الجنّ ويجوز العكس (أَنْ) مخففة أي : أنه (لَنْ يَبْعَثَ اللهُ) أي : الذي له الإحاطة الكاملة علما وقدرة (أَحَداً) أي : بعد موته لما لبس به إبليس عليهم حتى رأوا حسنا ما ليس بالحسن ، أو أحدا من الرسل يزيل به عماية الجهل ، وقد ظهر بالقرآن أن هذا الظنّ كاذب ، وأنه لا بدّ من البعث في الأمرين.
قال الجن : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) أي : زمن استراق السمع منها. قال الكلبي : السماء الدنيا أي : التمسنا أخبارها على ما كان من عادتنا من استماع ما تغوي به الإنس ، واللمس المس فاستعير للطلب ؛ لأن الماس طالب متعرّف ، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها (فَوَجَدْناها) في وجد وجهان :
أظهرهما أنها متعدية لواحد لأنّ معناها أصبنا وصادفنا ، وعلى هذا فالجملة من قولهم (مُلِئَتْ) في موضع نصب على الحال على إضمار قد.
والثاني : أنها متعدّية لاثنين فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني ويكون (حَرَساً) منصوبا على التمييز ، نحو : امتلأ الإناء ماء ، والحرس اسم جمع لحارس نحو : خدم لخادم ، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع ويجمع تكسيرا على أحراس ، والحارس الحافظ الرقيب ، والمصدر الحراسة و (شَدِيداً) صفة لحرس على اللفظ ، ولو جاء على المعنى لقيل شدادا بالجمع لأن المعنى ملئت ملائكة شدادا كقولك : السلف الصالح ، يعني الصالحين. قال القرطبيّ : ويجوز أن يكون حرسا مصدرا على معنى حرست حراسة شديدة (وَشُهُباً) جمع شهاب ككتاب وكتب وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم المانع لهم عن استراق السمع.
(وَأَنَّا كُنَّا) أي : فيما مضى (نَقْعُدُ مِنْها) أي : السماء (مَقاعِدَ) أي : كثيرة قد علمناها لا حرس فيها صالحة (لِلسَّمْعِ) أي : أن نسمع منها بعض ما تتكلم به الملائكة مما أمروا بتدبيره ، وقد جاء في الخبر أنّ صفة قعودهم هو أن يكون الواحد منهم فوق الآخر حتى يصلوا إلى السماء ، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان فيزيدونّ معها الكذب. (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ) أي : في هذا الوقت وفيما يستقبل لا أنهم أرادوا وقت قولهم فقط (يَجِدْ لَهُ) أي : لأجله (شِهاباً) أي : شعلة من نار ساطعة تحرقه (رَصَداً) أي : أرصد به ليرمى به.
تنبيه : اختلفوا هل كانت الشياطين تقذف قبل البعث أو ذلك أمر حدث بمبعث النبي صلىاللهعليهوسلم؟ فقال قوم : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة عام ، وإنما كان من أجل بعثة النبي صلىاللهعليهوسلم ، فلما بعث منعوا من السموات كلها وحرست بالملائكة والشهب ، وقال عبد الله بن عمر : لما كان اليوم الذي نبئ فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم منعت الشياطين ورموا بالشهب ، قال الزمخشري : والصحيح أنه كان قبل البعث وقد جاء شعره في أهل الجاهلية ، قال بشر بن أبي خازم (١) :
والعير يرهقها الغبار وجحشها |
|
ينقض خلفها انقضاض الكوكب |
__________________
(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان بشر بن أبي خازم ص ٣٦.