حصين قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها» (١).
وقال الزجاج : أي : إذا اتقى وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيقة ، ورزقه من حيث لا يحتسب. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب» (٢).
(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ) أي : يسند أموره كلها معتمدا فيها (عَلَى اللهِ) أي : الملك الذي بيده كل شيء ولا كفء له (فَهُوَ) أي : الله في غيبه فضلا عن الشهادة بسبب توكله (حَسْبُهُ) أي : كافيه ما أهمه ، وحذف المتعلق للتعميم ، وحرف الاستعلاء للإشارة إلى أنه كان حمل أموره كلها عليه سبحانه ، لأنه القوي العزيز الذي يدفع عنه كل ضار ويجلب له كل سار إلى غير ذلك من المعاني الكبار ، فلا يبدو له عالم الشهادة شيء يشينه.
وقيل : من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية ولم يرد الدنيا ، لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل ، وفي الحديث : «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» (٣) ويؤخذ من هذا أن التوكل يكون مع مباشرة الأسباب لأنه صلىاللهعليهوسلم قال : تغدو وتروح وهي من المقامات العظيمة. قال البقاعي نقلا عن المولوي : وإلا كان اتكالا ، وليس بمقام بل خسة همة وعدم مروءة ؛ لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها في الدنيا من ترتب المسببات على الأسباب. ا. ه.
ولما كان ذلك أمرا لا يكاد يحيط به الوهم بقوله تعالى مهوّلا له بالتأكيد والإظهار في موضع الإضمار : (إِنَّ اللهَ) أي : المحيط بكل كمال المنزه عن كل شائبة نقص (بالِغُ أَمْرِهِ) أي : جميع ما يريده فلا بد من نفوذه سواء حصل توكل أم لا ، قال مسروق : يعني قاض أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه ، إلا أن من توكل عليه يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا. وقرأ حفص : بالغ ، بغير تنوين وأمره بالجر مضاف إليه على التخفيف ، والباقون بالتنوين ، وأمره بنصب الراء وضم الهاء. قال ابن عادل : وهو الأصل خلافا لأبي حيان (قَدْ جَعَلَ اللهُ) أي : الملك الذي لا كفء له ولا معقب لحكمه جعلا مطلقا من غير تقييد بجهة ولا حيثية (لِكُلِّ شَيْءٍ) كرخاء وشدة (قَدْراً) أي : تقديرا لا يتعداه في مقداره وزمانه وجميع عوارضه وأحواله ، وإن اجتهد جميع الخلائق في أن يتعداه. فمن توكل استفاد الأجر ، وخفف عنه الألم ، وقذف في قلبه السكينة ، ومن لم يتوكل لم ينفعه ذلك ، وزاد ألمه وطال غمه بشدة وخيبة أسبابه التي يعتقد أنها هي المنجية. فمن رضي فله
__________________
(١) أخرجه الطبراني في العجم الصغير ١ / ١٦ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٣٠٣ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٩ / ٣٨٨ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٢٣٣ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٢ / ٥٣٧ ، ٣ / ٤٤٤ ، ٤ / ١٢٢ ، ١٧٨ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٦٢٧٣.
(٢) أخرجه أبو داود في الصلاة حديث ١٥١٨ ، وابن ماجه في الأدب حديث ٣٨١٩ ، بلفظ : «من لزم الاستغفار ...».
(٣) أخرجه الترمذي في الزهد حديث ٣٣٤٤ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٦٤ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٠ ، ٥٢.