ولما كان المقام للعظمة قال الله تعالى : (الْعَظِيمِ) أي : الذي ملأ الأكوان كلها عظمة فلا شيء منها إلا وهو مملوء بعظمته تنزيها عن أن يلحقه شائبة نقص أو يفوته شيء من كمال ، فالعظيم صفة للاسم أو الرب ، والاسم قيل : بمعنى الذات وقيل : زائد أي : فسبح ربك واختلف في «لا» في قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ) فقال أكثر المفسرين : معناه فاقسم ولا صلة مؤكدة بدليل قوله تعالى بعد ذلك : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) ومثلها في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩] والتقدير : ليعلم وقال بعضهم أنها حرف نفي وإنّ المنفي بها محذوف وهو كلام الكافر الجاهل والتقدير فلا حجة بما يقوله الكافر ؛ ثم ابتدأ قسما بما ذكر وضعف هذا بأنّ فيه حذف اسم لا وخبرها قال أبو حيان : ولا ينبغي فإنّ القائل بذلك مثل سعيد بن جبير تلميذ حبر القرآن وهو عبد الله بن عباس ، ويبعد أن يقول سعيد إلا بتوقيف ، وقال بعضهم : إنها لام الابتداء والأصل : فلأقسم فأشبعت الفتحة فتولد منها ألف كقول بعضهم : أعوذ بالله من العقراب قال الزمخشري : ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأمرين : أحدهما : أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة والإخلال بها ضعيف قبيح ، والثاني : أن لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال وفعل القسم يجب أن يكون للحال.
واختلف أيضا في معنى قوله عزوجل : (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) فقال أكثر المفسرين : بمساقطها لغروبها ، قال الزمخشري : ولعل الله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالا عظيمة مخصوصة وللملائكة عبادات موصوفة ، أو لأنه وقت قيام المجتهدين والمبتهلين إليه من عباده الصالحين ونزول الرحمة والرضوان عليهم ، فلذلك أقسم بمواقعها واستعظم ذلك بقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) وقال عطاء بن رباح : أراد بمواقعها منازلها ، قال الزمخشري : وله في ذلك من الدليل على عظيم القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف ، وقال الحسن : مواقعها انكدارها وانتثارها يوم القيامة ؛ وقال ابن عباس والسدي : المراد نجوم القرآن أي أوقات نزولها ؛ وقال الضحاك : هي الأنواء التي كانت الجاهلية تقول إذا مطروا : مطرنا بنوء كذا ، وقال القشيري : هو قسم ولله أن يقسم بما يريد وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة فإن قيل لو تعلمون جوابه ماذا؟ أجيب : بأنه مقدّر تقديره لعظمتموه أي : لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم ولكنكم ما علمتموه فعلم أنكم لا تعلمون ، وقرأ بموقع حمزة والكسائي بسكون الواو ولا ألف بعدها والباقون بفتح الواو ألف بعدها.
وقوله تعالى : (إِنَّهُ) أي : القرآن الذي أفهمته النجوم بعموم إفهامها (لَقُرْآنٌ) أي : جامع سهل ذو أنواع جليلة (كَرِيمٌ) أي : بالغ الكرم منزه عن كل شائبة لؤم ودناءة هو المقسم عليه ، وفي الكلام اعتراضان أحدهما : الاعتراض بقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) بين القسم والمقسم عليه ، والثاني الاعتراض بقوله تعالى : (لَوْ تَعْلَمُونَ) بين الصفة الموصوف.
تنبيه : من كرم هذا القرآن العظيم كونه من الملك الأعلى إلى خير الخلق بسفارة روح القدس ، مشتملا على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد وبلسان العرب الذين اتفقت علماء الفرق على أنّ لسانهم أفصح الألسن ، وعلى وجه أعجز العرب كافة وبقية الخلق أجمعين واختلف في معنى قوله تعالى : (فِي كِتابٍ) أي : مكتوب (مَكْنُونٍ) أي : مصون فالذي عليه الأكثر أنه المصحف سمي قرآنا لقرب الجوار على الاتساع ولأنّ النبي صلىاللهعليهوسلم «نهى أن يسافر